^ من الخطأ القاتل أن يقودنا فهمنا للأحداث والتصريحات إلى أنها “مؤامرة”، فليست هناك مؤامرة تعد في وضح النهار، وتحاك خيوطها على مرأى ومسمع العالم، أفراداً، ودولاً، ومؤسسات. لكن من السذاجة بمكان القبول بأن ما أعد له في بغداد، لا يعدو كونه مناقشة الملف النووي الإيراني، الذي سيواصل من شاركوا في لقاء بغداد استكمال نقاشاته في نهاية العام الحالي في موسكو. فلو كان الهدف، كما تروج الأطراف الضالعة في لقاء بغداد، وقف إيران عن الاستمرار في مشروعها النووي، لكانوا وضعوا طهران أمام خيارين لا ثالث لهما، إما انصياع طهران، دونما نقاش، لما تراه مجموعة (5 +1) صحيحاً، بغض النظر عن حق تلك المجموعة في فرض شروطها، وإما تصعيد موقف تلك المجموعة إلى مستوى اضطرار إيران للخضوع لها. هذا يعني أن هناك بنوداً إضافية، ليست محصورة في الملف النووي الإيراني، هي التي ستستأثر بنصيب الأسد من النقاشات، التي لا بد لها من أن تعرج على بند ذلك “الملف”. هذا يدفعنا إلى التوقف عند اجتماعات الملف برمتها، وإعادة قراءة جدول أعمالها بشيء من التمعن المشوب بالشك. فحقيقة الأمر إذا نظرنا إلى تلك الأحداث والتصريحات التي أوردناها في بداية المقال، وحاولنا إنضاجها بوضعها في قدر على نار هادئة، وإعادة قراءتها جميعاً وهي تتفاعل في طريقها نحو النضج، سنكتشف أنها جميعاً تشير إلى أن أكثر البنود هامشية على مائدة اجتماع بغداد، ولاحقاً في موسكو، لن يكون الملف النووي الإيراني، وإنما إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط التي لا بد وأن تأتي في قمة اهتمامات جميع الدول المشاركة في اللقاء، بما فيها الدولة الإقليمية، والتي هي إيران. وبالتالي فلن ينكب المشاركون في لقاء بغداد، ويهدرون وقتهم في مناقشة موضوع، تشير كل الدلائل على أن هناك شبه إجماع على طريقة التعاطي معه، والتحكم، إلى حد بعيد، في مساراته، في مرحلة هم في أمس الحاجة إلى إمعان النظر في خارطة الشرق الأوسط، التي تؤثر مواقع أراضيها الاستراتيجية، الحاضنة لما يزيد على 25 % من الإنتاج العالمي للنفط، وتختزن ما يربو على 60% من احتياطيه، على سياستهم العالمية، وتمس مصالحهم المباشرة، كي يعيدوا رسم تلك الخارطة، الحبلى بالتغيرات، بما ينسجم مع تلك المصالح، ويحافظ عليها، ويضمن الدفاع عن كلتيهما: السياسة، والمصالح. لا ينبغي أن يقودنا كل ذلك إلى تصوير أن ما يجري في لقاء بغداد لن يعدو كونه “مؤامرة “ يحيكها المشاركون فيه ضد العرب والدول العربية، ففي ذلك الكثير من التسطيح السياسي، الذي غالباً ما نغرق نحن العرب في تحليلات مياهه الضحلة. فمن الطبيعي أن يحظى الملف النووي الإيراني بالاهتمام، لكن في الحدود التي يستحقها، دونما إغراق غير مجد، ولا قفز عليه غير مبرر. من أجل ذلك ولكي نزيل الأوهام من أذهان من يصرون على جدية أطراف لقاء بغداد في حصر نقاشات جلساته في موضوع الملف النووي الإيراني، لنفترض جدلاً، إن إيران أصرت، وبشكل علني، على حقها في امتلاك السلاح النووي، فهل هذا يعني قدرتها على استخدامه ضد أي من أعدائها، فيما لو اندلعت حرب بينها وبين أي من أولئك الأعداء. ولنأخذ العدو الصهيوني مثالاً للتدليل على عدم أهمية تسليح إيران نفسها نووياً. فرغم امتلاك تل أبيب للسلاح النووي منذ الستينات، إن لم يكن الخمسينات من القرن الماضي، فهي لم تجرؤ على استخدامه في أي من الحروب التي خاضتها ضد الدول العربية، بما فيها حرب رمضان في سبعينات القرن الماضي، عندما كادت تل أبيب أن تشهد أكبر هزيمة عرفها تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فوجدناه عوضاً عن اللجوء إلى السلاح النووي، تستنجد بالولايات المتحدة التي لم تتردد في مدها بما تحتاجه من سلاح وعتاد ودعم إعلامي ودبلوماسي، قاد في نهاية الأمر إلى وقف التقدم المصري، وصولاً إلى معاهدات السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل. من هنا ليس هناك أكثر من طهران ذاتها إدراكاً، بأن هناك ما ينبغي أن يكون أكثر أولوية من امتلاك السلاح النووي، إنما مستقبل خارطة العلاقات وأطلس التحالفات القادمة في منطقة الشرق الأوسط، الآخذة معالمها في التشكل، وهو الأمر الذي يسيل له لعاب من لهم مصالح فيها من أمثال مجموعة (5 + 1)، أو يثير مخاوف من ستمسهم تلك التحولات بشكل مباشر مثل إيران. تأسيساً على ذلك، فإن ما يدفع أطراف لقاء بغداد أن يروجوا لعنوان محادثاتهم، كي يوهموا العالم بأنها ستكون محصورة في القضية النووية هي مجموعة من الأسباب يمكن تحديد الأهم من بينها في النقاط التالية: 1. بالنسبة لإيران، ليس هناك ما بوسعه سحب البساط من تحت خصومها الداخليين، وهم كثر هذه الأيام، وتحييد القوى القومية والعقائدية المعارضة لها، أفضل من جر البلاد إلى معركة خارجية، تظهر فيها طهران أنها مجبرة على خوضها، كما تبدو فيها أيضاً، أنها ضحية مستهدفة من “الدول العظمى”، بقيادة “الشيطان الأكبر”، الذي هو الولايات المتحدة. الحكم في طهران اليوم، في أمس الحاجة إلى تماسك داخلي ملتف حول السلطة، يعينه على خوض معاركه الإقليمية الخارجية، مثل الخلاف على تسمية الخليج، والحق في امتلاك التقنيات النووية، والحيز السياسي والاقتصادي الذي تطمح هي لاحتلاله في خارطة الشرق الأوسط. 2. أما بالنسبة لدول مجموعة (5 + 1)، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، فهي الأخرى بحاجة اليوم إلى قناة شرعية توفر لها القدرة على استمرار الاتصال مع طهران، وتمدها بالغطاء العلني الشرعي الذي يبيح لها إجراء أية مفاوضات تجد نفسها في حاجة لها. على نحو مواز أيضاً، تدغدغ الإدارة الأمريكية، من خلال إثارة الرأي العام الأمريكي والدولي ضد إيران، وسعيها للوصول إلى حل بشأن المسألة النووية، غرائز المجتمع الأمريكي، وتحرف أنظاره عن المشكلات الداخلية التي يعاني منها، والتي ولدتها الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي، وماتزال تداعياتها، تشكل تهديداً مستقبلياً ماثلاً أمامه. كل ذلك يجعل المواطن العربي يرى فيما جرى في بغداد، وقبل ذلك في إسطنبول، ولاحقاً في موسكو، بشأن الملف النووي الإيراني ما يشبه المهزلة الدولية التي سوف تستمر لفترة قادمة، ولن تتوقف قبل أن يصل الطرفان الأساسيان في تلك اللقاءات، وهما إيران والولايات المتحدة إلى اتفاق واضح المعالم، ينظم العلاقات فيما بينهما، ويزيل عقبات الخلافات التي تقف في طريق مساعيهما المشتركة للوصول إلى صيغة تحالف قوي قابل للصمود في وجه العواصف التي يرونها في انتظاره