ميدل إيست أونلاين: الكتابة عن الراحل الكبير الأستاذ الدكتور عبدالوهاب المسيري مهمة صعبة من وجوه عديدة، أولاً لأنه عالم شديد الاتساع والثراء حتى أنه يكاد يكون صاحب مشروع متكامل لإعادة تأسيس العلوم الإنسانية وفق رؤية عربية إسلامية (إنسانية) بعيداً عن تراثها الضخم الواقع في أسر المركزية الغربية، أو بتعبير آخر تأسيس “حداثة إسلامية”. والحصيلة إنتاج كبير يجمع بين الغزارة والعمق والتنوع: دراسات في الظاهرة الصهيونية وأعمال في النقد الأدبي والأدب الإنجليزي والعلمانية والتحيز ومناهج البحث، وأعمال إبداعية: دوواين شعر وقصص أطفال.
من ناحية أخرى فإنه مثل اللؤلؤة ذات الأوجه المتعددة، فهو في مرحلة من حياته كان ماركسياً مادياً، وفي مرحلة تالية إسلامياً (إنسانياً)، وهو في مرحلة كان أكاديمياً تخصصه الأدب الإنجليزي ثم استقال للتفرغ للكتابة، وفي الوقت نفسه كان عبد الوهاب المسيري محجماً بشكل طوعي عن العمل العام ليخرج على قرائه مفكرا موسوعيا ربما لم تشهد الثقافة العربية الإسلامية قامة تطاوله من زمن بعيد، لكنه لم يتوقف عن التغير، فانخرط في السياسة في مرحلة تالية.
حالة مراجعة فكرية
رغم أن المسيري حالة من حالات مراجعة فكرية مماثلة شهدتها مصر بشكل متزامن تقريباً فإنه ينفرد عنهم جميعاً بأهمية استثنائية. فموقفه ليس رد فعل لنكسة يونيو 1967 التي دفعت مثقفين لمراجعة قناعاتهم الفكرية تحت ضغط الفشل العسكري المريع ولا بحثاً عما يمكن أن يحرك الشارع -كما فعل سياسيون نفعيون نظروا للهوية الإسلامية كورقة رابحة- بل دخل هذه المرحلة من باب التساؤلات الكونية والتأمل في قضايا شديدة العمق. وقد رحل الرجل بعد أيام من عودتي من بيروت في رحلة قمت فيها بتسليم الجزء الأول من كتاب عن حياته ومشروعه الفكري سيصدر قريباً عن مركز دراسات معروف ببيروت. وقد ربطتني بالمسيري علاقة شخصية وثيقة ورأيته عن قرب وتحاورت معه كثيراً، وكثيراً ما اتخذت موقع الناقد لأفكاره فكان واسع الصدر بشكل مدهش. وقد تعرفت على الراحل الكبير عام 1994 وكنت وقتها مقرراً لأمانة الدعوة والتثقيف بحزب العمل وكان أمينه العام الراحل الأستاذ عادل حسين وكانت مسيرته الفكرية تشبه مسيرة المسيري في أنه كان هو الآخر ماركسياً سابقاً، وكلفني عادل حسين بالاتصال بالدكتور المسيري تنظيم احتفال بالذكرى السنوية الأولى لوفاة القيادي الفلسطيني الراحل الأستاذ أبو السعيد خالد الحسن، وكان الراحل خالد الحسن مفكراً عربياً إسلامياً كبيراً، وكان دائماً يعد استثناء بين الرعيل الأول المؤسس لـ«حركة فتح”، وكانت أغلبيتهم الساحقة يساريين متشددين (ماركسيين وقوميين).
باحث دؤوب طوال اليوم
وعندما صدرت موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” (1999) كان الإهداء إلى الراحل خالد الحسن، ومن الملامح المهمة التي عايشتها في علاقتي بالمسيري ملمح الباحث الدؤوب فهو يكاد يقضي يومه من أوله لآخره بين الكتب والأفكار من الاستيقاظ إلى النوم. يقول المسيري: “بدأت كتابة الموسوعة وأنا في الخامسة والثلاثين من عمري، وكنت أعمل فيها ليل نهار. أبدأ أحياناً في السادسة صباحاً ولا أنتهي إلا في الثانية عشرة مساء واستمر لمدة أسبوعين دون توقف. ورغم تقدمي في السن، فإن حصتي من النشاط والصحة كانت آخذة في الازدياد بحيث كنت أكثر نشاطاً في الثامنة والخمسين مني في الخامسة والثلاثين. كما إن الله عافاني من أي مرض طوال هذه المدة (باستثناء نوبات المرض الخفيفة المعتادة التي تدوم عدة أيام ولا تعطل عن العمل، وعملية جراحية صغيرة دامت عدة أيام). ولذا حينما كان أحد يحدثني عن التقدم في السن كنت لا أفهم ماذا يقول!!”.
طعم الموت والمرض
عن المرض الذي أصيب به المسيري منذ سنوات يقول: “يوم أن انتهيت من الموسوعة، عرفت نبأ حزيناً للغاية (موت زوج ابنتي). وقد لاحظت في ذلك اليوم أنني بدأت أفقد النطق أحياناً. وكنت أظن أنه عيب في فكي. وظللت متماسكاً مدة شهرين تقريباً، ثم بدأت أشعر بدوار كلما فكرت أو مارست أي أحاسيس، وقد سقطت مرتين أو ثلاثاً على الأرض. ويبدو أن مرضي كان في معظمه نفسياً، نتيجة للإرهاق الذي أصابني من جراء العمل المتواصل في الموسوعة ومن جراء الخبر الذي وصل إلي وأنا منهك القوى تماماً بعد الانتهاء منها. فكان جهازي العصبي يتصرف بإرادته مستقلاً عني، إذ قرر أن يستجيب لأي شيء ولكل شيء حسبما يعن له، دون تدخل واع مني. ذقت طعم المرض والموت لا كمقولات مجردة وإنما كتجربة عشتها بنفسي، واستوعبتها بشكل وجودي. ولم ينقذني من هذا الزلزال سوى الرضا وتقبل الحدود”.
ويضيف المسيري: يبدو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يرسخ في الإحساس بالمرض والموت. إذ أصبت بمرض يسمى ميلوما وهو نوع من أمراض سرطان الدم. ورغم فجائية اكتشاف المرض إلا إنني تقبلت هذا الخبر بكثير من الهدوء والرضا، بل إننا حين كنا في شيكاغو أنا وزوجتي لاستشارة الأطباء، كنا نحدد مواعيد الأطباء بما يتفق مع جدولنا “السياحي”. تعلمت الكثير في مرضي: أنا لم أمرض مرة واحدة تقريباً أثناء كتابة الموسوعة، بل كنت أتحدث عن السيطرة على الجسد من خلال الإرادة والعزم والإصرار، ولذا أعددت عشرات المشروعات البحثية فور الانتهاء من الموسوعة، ولكني تعلمت من مرضي حدود الجسد الإنساني وحدود المقدرة الإنسانية. وبدأت أتعاطف مع المعوقين أكثر من ذي قبل حيث إنني قضيت بضعة شهور على كرسي ذي عجل وقضيت عاماً تقريبا أتوكأ على عصا (وإن كنت اكتشفت كيف أن الإنسان المعوق يعوض نقط النقص فيه من خلال كفاءات أخرى يطورها). وتعلمت ما قاله لي أحد الأصدقاء إنه لا يوجد مرض وإنما يوجد مرضى. كما غمرني أصدقائي وتلاميذي بالمحبة، فعادني عشرات منهم ووصل إلي نهر جميل من الأزهار، كان يفيض من غرفتي على بقية المستشفى. وحيث إن التدهور في حالتي الصحية بدأ يوم أن انتهيت من الموسوعة، انتشرت شائعة طريفة في القاهرة مفادها أن الموساد هي التي وضعت فيَّ الميكروبات التي تسببت في هذه الأمراض. وهذا تطبيق كوميدي لنظرية المؤامرة”!.
معاناة المثقف العربي
تجربة المسيري كشفت عن حجم معاناة المثقف العربي وضآلة المردود المادي لهذا العمل الراقي، فحينما انتهي من كتابة الموسوعة كان خالي الوفاض تماماً فقدم طلباً للحكومة المصرية ليعالج على حساب الدولة، ولم يصله رد أبداً!
لكن من كرم الله ولطفه أن جاء لزيارته صديق من المملكة العربية السعودية هو الأديب حمد العيسى وعرف بحالته، وبخاصة أنه كان يناقش آنذاك مع زوجته كم من النقود سيقترض من أولاده ومن البنوك. فكتب مقالاً في إحدى الجرائد السعودية، فعلم مكتب الأمير عبدالعزيز بن فهد بالموضوع، فقاموا هم بتكاليف العلاج. بل عرضوا عليه أن يرسلوا له طائرة خاصة لتقله إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
من هو المسيري
ولد عبدالوهاب محمد المسيري في 1938 في مدينة دمنهور، وفي العام 1955 التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية بآداب الإسكندرية، وبعد التخرج، وفي عام 1963 سافر لأمريكا للحصول على الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كولومبيا، ثم التحق بجامعة رتجرز وحصل منها على الدكتوراة (1969). وفي العام نفسه عاد إلى مصر للتدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس. وفي العام 1970 عُيِّن الدكتور المسيري مستشاراً لوزير الإرشاد القومي، وهي وزارة استحدثها ضباط يوليو، وكان وزيرها آنذاك الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل الذي ربطت بينه وبين الدكتور المسيري علاقة شديدة الأهمية.
وشهد العام 1972 صدور كتاب “نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني” الذي يصفه المسيري بأنه أول مؤلفاته الحقيقية. وأصدر المسيري أول مؤلفاته الموسوعية عام 1975: “موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية”، وفي العام نفسه عاد المسيري إلى أمريكا ليلحق بأسرته التي سافرت لتحصل زوجته الدكتورة هدى حجازي على درجة الدكتوراه في التربية، وخلال هذه الفترة التي امتدت حتى عام 1979 عمل مستشاراً للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة. وهو منذ سنوات أستاذ زائر بجامعة ماليزيا الإسلامية في كوالالمبور، وبأكاديمية ناصر العسكرية في مصر. وبعودته إلى مصر عام 1979 عاد للتدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس، قبل أن ينتقل إلى السعودية للتدريس بجامعة الملك سعود، ثم إلى الكويت للتدريس بجامعة الكويت عام 1989. وفي العام 1990 انتهت علاقة الدكتور المسيري بالتدريس حيث استقال من الجامعة وتفرغ للكتابة، وقد بدأت مؤلفاته تتوالى بدءاً من عام 1996 بصدور كتابه: “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة”، ثم صدرت الموسوعة عام 1999. وفي يناير 2007 تولى الدكتور المسيري منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وهي الحركة المعارضة لحكم الرئيس حسني مبارك وتسعى لإسقاطه من الحكم بالطرق السلمية ومعارضة تولي ابنه جمال مبارك منصب رئيس الجمهورية من بعده.
رئيس وحدة الفكر الصهيوني
تلك كانت “معلومات” عن حياة المسيري لكن الأرقام والتواريخ وحدها لا تكفي للإحاطة بسيرته ولا غناء عن استعراض “المعالم”، فإلى جانب العمل الأكاديمي والنتاج الفكري ترك عبد الوهاب المسيري بصمة مهمة في مؤسسة من المؤسسات المصرية المعروفة، فقد شغل منصب رئيس وحدة الفكر الصهيوني وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام (1970 ـ 1975)، وهو مركز أنشئ ليكون “مطبخاً” لصانع القرار السياسي في مصر. كما إنه المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن (1992ـ حتى وفاته)، وعضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في ليسبرج في فيرچينيا بالولايات المتحدة الأمريكية (1993 ـ حتى الآن). عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية –واشنطن- الولايات المتحدة الأمريكية (1997م - حتى وفاته)، ومستشار تحرير عددٍ من الحَوْليات التي تصدر في مصر وماليزيا وإيران وأمريكا وإنجلترا وفرنسا.
وتعكس السيرة الذاتية للمسيري (رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر) اعتزازه بأصوله واهتمامه بقضية الهوية بمعنييها الذاتي والعام، وهو يكشف عن أنه مبكراً بحث عن أصل عائلته ويضيف: “وبطبيعة الحال، قيل لنا إننا من الأشراف، من أهل البيت. وكان أحد أعضاء العائلة يحتفظ بشجرة تبدأ فروعها من دمنهور في القرن العشرين وتنتهي عند مكة في أيام البعثة المحمدية”.
ويكمل المسيري: “وكانت إحدى علامات الأصالة أن يعرف الإنسان أسماء جدوده ولذا كنت أعرف أن اسمي هو: عبدالوهاب محمد أحمد علي غنيم سالم عز المسيري”. وحسب المسيري نشأته جعلته باحثاً مثابراً فأبناء البرجوازية الريفية -وأنا منهم- ينشأون في خشونة، خلافاً لأبناء البرجوازية الحضرية. ويكمل المسيري: كان والدي يردد ألا علاقة لنا بثروته، زادت أم نقصت، وأن علينا أن نعيش في مستوى أولاد الموظفين. وأذكر جيداً أنه حينما أمتلك سيارة خاصة، في منتصف الخمسينات، منعنا من ركوبها وكان يقول لنا: اركبوا الترام مثلكم مثل بقية الشباب. كنت أشكو من هذا آنذاك، لكنني تعلمت، فيما بعد، عندما ازددت حكمة، أنه نفعنا كثيراً بذلك، وعندما ذهبت إلى أمريكا ولم يكن عندي أي مصدر دخل إضافي لتغطية نفقاتي، ولم يكن من الممكن تحويل أي أموال من مصر، اضطررت للعمل خفيراً في مصنع في أمريكا، وما كان بوسعي أن أتحمل ذلك دون طريقة والدي في التنشئة”.