كتب - علي الشرقاوي:
عندما تنفد طبعة أي كتاب من الكتب من المكتبات ـ فإن هذا دليل على قوة الكتاب ومدى أهميته للقارئ. وكتاب (شيء من التراث البحريني) للكاتب عبدالله عبدالعزيز الذوادي ، واحد من الكتب التي استطاعت أن تكون علاقة مع قارئها ، خصوصاً وانه هذا الكتاب، يسجل جزء بسيط من تراثنا البحريني الذي مازال بكراً، ويحتاج إلى عشرات الباحثين ، للوصول إلى تدوينه وتسجيله ومناقشته ودراسته الدراسة التي يستحقها .
كتاب (شيء من التراث البحريني) بعد أن نفد طبعته الأولى، قام صاحبه، بإعادة طباعته، من اجل أن يفتح المجال أمام الذي لم يستطع الحصول على الطبعة الأولى ـ بالحصول على الطبعة الثانية التي لم يضف الكاتب الكثير إليها في مادته الأساسية ، بقدر ما أحب أن يطرح أصداء هذا الكتاب ويشكر بطريقته الخاصة وبالصور، القيادة وبعض الشخصيات التي كانت وراء انتشاره بين القراء في البحرين وخارج البحرين .
إن في إعادة لهذا الكتاب الهام ، أتوقف أمام إحدى الحكايات التي شكلت لنا مساحة من الخيال الخصب، وهي حكاية الحوتة التي أكلت القمر، حيث كنا نردد دون نفهم ما تعني كلمات ( مسمار الرحى تقلقل .. سلته بلته الحوته )
والكاتب الذوادي يقوم بتسجيل الحكاية كما سمعها منذ الأربعينيات من القرن الماضي . ومن أجل إيصال الحكاية إلى الذين لم يعرفوها من قبل ، ننقلها على لسان الذوادي نفسه.
التذكير بمرجئ الحياة
من القضايا المهمة التي طرحها الذوادي في كتابه هو تأريخه لحياة بعض الولادات في البحرين واللواتي عملن على مساعدتنا من خروج بطون أمهاتنا إلى الحياة الدنيا، وعبر هذا الطرح، يحاول أن يقدم لهم الشكر لما قاموا به من عمل صالح. في الوقت نفسه عمل على كتابة ما هو مسكوت عنه من قبل، فإذا كان هناك من اهتم بالكتابة عن الولادة الرائعة أم جان، والتي عملت على القيام بتوليد المئات من النساء أن لم يكن الآلاف في المحرق وغيرها، فإن هناك من يستحققن الحديث عنهن وعن حياتهن وما قدموا لنا من عمل صالح يندر أن يقوم به غيرهن. يذكر منهن المرحومة السيدة أسماء بنت محمد بن ناصر الهمداني (أم إسماعيل) زوجة الحاج محمد بن إبراهيم العريض، التي عملت قابلة منذ العام 1931 إلى العام 1965م في فريج الفاضل، والولاة جميعة وسواها.
أتصور أن الذوادي هنا، بدأ مرحلة جديدة من التأريخ لمجموعة نساء مهمات، ليس في تاريخنا البحريني، إنما تاريخ العالم ككل، محفزاً كل العالم للكتابة عن نساء ولادات رائعات متفانيات، خضن المعاناة ـ بالطبع مع الأمهات، لإخراجنا من الظلمة النور، قاطعات الصرة، لإدخالنا في تجربة الحياة.
«الحوتة” التي أكلت القمر
حاول الذوادي في كتابه شيء من التراث البحريني ـ أن يذكر من عاش في جيله و من الأجيال اللاحقة ، ببعض القصص والحكايات والخرافات الشعبية ، ولأنني عشت بعض هذه القصص التي شكلت ذاكرتنا الشعبية ، وثقفت مخليتنا ، وعلمتنا كيفية التعامل مع الظروف الحياتية التي ستصادفنا ونحن نغير مراحل الغمر المختلفة، مثل “الحوتة” التي أكلت أو بلعت القمر ، وطرق إعادة القمر، فأنني انقل هذه الحكاية التي سطرها قلم عبدالله عبدالعزيز الذوادي ، للاستفادة منها في رواية أو في عمل درامي تلفزيوني أو فيلم سينمائي، بعد أن اشتغل عليها البعض في شكل مسرحي .
يقول عبدالله عبدالعزيز إنه من الأساطير التي كانت سائدة عندنا في البحرين أنه عندما يحدث خسوف للقمر، يخرج الناس من منازلهم كباراً وصغاراً يقرعون الطبول و«الهاونات” و«التنكات” في مجاميع كبيرة، أطفالاً ونساءً ورجالاً يهتفون هتافات بأصوات عالية “هدّي قمرنا يا حوتة”، معتقدين أن “الحوتة” تطبق على قمرنا لتقضي عليه، وتستمر تلك المظاهرات العارمة في كافة الأحياء، خصوصاً الأحياء الشعبية حتى ساعات متأخرة من الليل، مرددين الهتافات التي لا تخلو من السباب والشتائم للحوتة التي تطبق على القمر، ولا يعودون إلى منازلهم إلا بعد أن ترفع “الحوتة” جسدها عن القمر ويتجلى قرصه تماماً بكل وضوح وينشر ضوءه الفضي على أرجاء المعمورة، فتستريح نفوسهم وتنفرج سرائرهم ويذهب حزنهم وتعود إليهم بسماتهم، لأنهم استطاعوا أن يخلصوا قمرهم من قبضة “الحوتة”.
في الجانب الآخر من المشهد يعتلي المؤذنون المآذن ويكبرون ويهللون ويدعون الله أن يزيح هذه النغمة عن قمرهم المنير. ويستمر رفع الأذان في المآذن إلى أن ترحل “الحوتة “عن قمرهم وبعد ذلك يهجع الناس وترتاح نفوسهم، بعد انتهاء المعركة التي سلاحها القرع على الطبول والدفوف والسب والشتم،
هكذا ستبقى الحوتة (الأرض) عدوة للقمر تغير عليه كلما عن لها ذلك لتحجب نوره عن نفسها (الأرض) لفترة معينة، خصوصاً عندما يكون بدراً، وهكذا هم أهل ذلك الزمان لا يقبلون الضيم، فهم يحاربون أي شي يعتدي على وجودهم، حتى وإن كان في بعد القمر عن الأرض، فتلك الطبول والهاونات والمزامير والسب والشتم يصل إلى آذان “الحوتة”، وهي تشبه قرع طبول الحرب قبل بدء المعركة، فتخشاهم “الحوتة” وتفك أسرها للقمر فيعود بضوئه الفضي إليهم، فترتاح نفوسهم وتنفرج أساريرهم، ولله في خلقه شؤون.
إن الكاتب عبدالله الذوادي وغيره من الباحثين الجادين، هم من نعتمد عليهم لتدوين وتسجيل وكتابة ودراسة تاريخنا المعاصر، سواء في جانبه التراثي أو السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فأرض تعرف تاريخها ، وتستمد منه العبر والحكمة ، تستطيع أن تسير إلى المستقبل، بثقة العارف طريقه الذي يقوده إلى المدن التي يحلم.
في الوقت الذي اشد فيه على يد عبدالله الذوادي أقول له بكل حب، إننا ننتظر الكتب الأخرى التي وعدنا بها، الكتب التي تضيء لنا ما لم نعشه من إحداث وشخصيات شكلت ما نحن عليه الآن.