ميدل إيست أونلاين: في العام 1966، نشر صنع الله إبراهيم روايته الصغيرة “تلك الرائحة”، وقال في شأنها “إنّها رواية تقع على حافّة السّيرة الذاتية”، وذلك من جهة كونها تحكي تجربة مثقف يساري، لا نعدمُ فيها تماهياً مع تجربته هو، يخرج من السجن بعد خمس سنوات ويُلقى به في الشارع دون مأوى أو معاش. وفي الشارع يقف على اصطراع ثلاث فلسفات هي من الرواية قادحةُ أحداثها: فلسفة الدولة الناصرية التي ترفع شعارات معاداة الإمبريالية وتُمنّي المواطنين بالنصر في الحروب والانتصار على الجوع، وفلسفة الشارع التي تنزع إلى الفردية والعيش التظاهري وتجاوز منظومة القِيم الاجتماعية وخاصة منها قيمة الإيثار على النفس، وفلسفة المثقّف الطوباوية القائمة على أحلام الاشتراكية وتحقيق العدالة الاجتماعية لجميع الناس.
ونستذكر الآن رواية “تلك الرائحة” التي لم يُكتَب لها أن تنتشر بين القرّاء انتشارَ “نجمة أغسطس” لصنع الله إبراهيم، لأننا وجدنا في رائحةِ أحداثها وأساليبها الفنية الحديثة إصراراً على أن تظلّ عالقة بالذّهن بعد مُضيّ أكثر من خمس عشرة سنة من تاريخ قراءتها. وقد يكون من تفريع سبب هذا الاستذكار انعدامُ “الرائحة” في أغلب الروايات التونسية التي اطّلعنا عليها بكاملِ حواسّنا ويقظتنا القرائية. إذْ، على تعدُّدِ عناوين الروايات خلال العشريتيْن الأخيرتيْن، وتنويع أصحابِها من أساليب إشهارها، حتى بات الفعل الإشهاري عندهم أكثر إمتاعاً من رواياتهم، فإنّ تلك الإصدارات الروائية ظلّت، في أغلبها، فاقدةً لأدنى مظاهر الحياة، بل هي تكاد تكون جُثثاً لغويّةً تنتظر التعفُّنَ في رفِّ مكتبةٍ أو على قارعة طريقٍ عامٍّ رغم جميل الإهداءات فيها.
ولئن كنّا نجد بعضَ المغالاةِ والتعميم في قول د. محمد الباردي، في أحد دروسه الجامعية، بأنه لا توجد رواية تونسية، بل نجد فيه مفهوماً جغرافيّاً يضيّق من معنى الأدب، فإنّ واقع السرد التونسيّ يُجيز لنا القول بأنّ الرواية منه موجودةٌ، ولكنها لم تخرج بعدُ من حيِّزِ الاجتهادِات الشخصية. وهي اجتهاداتٌ لا ينالُها حُكمُ “مَنْ اجتهد وأصابَ”، لأنها تتعلّق بمجال الإبداعِ، والإبداع لا يقبل التنسيبَ والتقصيرَ فيه. ذلك أنّه على مدى قرن من الزمن لم تتجاوز مدوَّنة الرواية في تونس الأربعمائة إصدار، بل إنّ إصدارات الروائيّ الواحد ظلّت شحيحةً، واعتمدت الجودة فيها مبدأ “بيضة الدّيك”، ما جعل أغلب القرّاء لا يعرف لهؤلاء الروائيّين سوى اسم رواية واحدة. ولعلّنا نردّ ذلك إلى كوننا نُلفي في “تطرُّفِ” بعض الروائيّين التونسيّين الجدد في ركوب موجة التجريب السرديّ، وسعيهم إلى تجاوز نواميسه التي حدّدتها تنظيراتُ مَن دعوا إليه من النقّاد الغربيين، ما حدا برواياتهم إلى الامتلاء بـالفراغ وبفوضى المعاني وبمجّانية الأحداث حتى باتت بلا لحمٍ سرديٍّ وبلا رائحة دَلالية، وصارت تروم قولَ كلّ شيءٍ بالقوّةِ ولا تقول أيَّ شيء بالفعل.
وحتى نرفع إطلاقيةَ القول بانعدام وجود رواية تونسيّة، يكفي أن نستحضر عناوين رواياتٍ بلغت من السّردِ جوهرَه، وشكّلت، على قلّتها، مُنجَزاً سرديّاً أكسب أصحابَه أحقية الحضور المتميّز في المشهد الروائي العربيّ. من ذاك مثلاً روايات “النخّاس” لصلاح الدّين بوجاه، و«الدراويش يعودون إلى المنفى” لإبراهيم درغوثي، و«حِنّة” لمحمد الباردي، و«عُشّاق بيّة” و«روائح ماري كلير” للحبيب السالمي، و«آخر الرعية” و«زمن الدنّوس” لأبي بكر العيادي و«شمس القراميد “ لمحمد علي اليوسفي. وهي روايات نهضت على وعيٍ كبير بقيمة الفعل الحكائيّ، والتزمت فيه بأغلب أشراطه الفنية، وانتبهت إلى مجريات واقع الناس وعرّتِ المسكوت عنه في المعيش اليوميّ بجميع ألوانه.
970x90
970x90