تب - خالد هجرس:
يتباكى بعض متشدقي الدفاع عن حقوق الإنسان، من أنصاف الحقوقيين، على حالات الوفاة والإصابات التي تحدث للمغرر بهم والمعتدين على أرواح الناس وممتلكاتهم وقطاع الطرق والمخربين والإرهابيين، دون أن يتبادر إلى أذهانهم، مزدوجة التفكير، الأبرياء من المواطنين والمقيمين الذين يتعرضون إلى الاعتداء والضرر بسبب إجرام المتباكى عليهم.
المستهجن في هذا التباكي أنه يحوي نوعاً من الاستثمار السياسي الواضح في المفهوم الحركي الكائن في “البحث عن شهيد” مهما كان فعل هذا الذي حشرته المعارضة الفئوية حشراً في قائمة الشهادة التي باتت عندهم درجة محققة بمجرد أن تنتقل روح “تلك الفئة” من الأرض إلى السماء. المضحك المبكي هنا أنه حتى إن كان سبب الوفاة جرعة مخدر زائدة أو تفاقم الأيدز والكبد الوبائي أو غرق في البحر أو أي حالة تُغطى بتضليل محبك الحبائل، فإن لفظ الشهيد يكون ملاصقاً لوصف الحالة التي تباركها “ثيوقراطية” ولاية الفقيه ويدعمها إعلام كاذب يستجدي فنه الرخيص من مدرسة كقناة العالم الإيرانية.
أكذوبة «الشهيد».. كالعادة
إحدى تلك الصيحات الإعلامية الكاذبة كانت فليماً يُفبرك حادثة وفاة “شهيد مزعوم” قام مع مجموعة مخربين برمي الزجاجات الحارقة (المولوتوف) على نقطة تفتيش في سوق المحرق مساء الجمعة 17 أغسطس الحالي آخر أيام شهر رمضان المبارك، حيث كان المكان مكتظاً بالمتبضعين والمارة، ولذلك قام رجال الأمن بأداء واجبهم المتمثل في حماية الآمنين، فاستخدموا الشوزن الذي أدى إلى حالة الوفاة تلك.
الفيلم الذي امتد إلى أقل من خمس دقائق وحمل تعليق إحدى مدعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، أرفق مقاطع أحداث سابقة على أساس أنها الواقعة التي يتحدث عنها، ناسجاً افتراءً قوامه أن “القوات الوحشية الدموية قتلت الشهيد بلا رحمة”، معللاً سبب هذه “الوحشية” بالزعم أن السلطة تعبر “عن حقدها على شعب البحرين عموماً وعلى الشيعة خصوصاً”.
استمر الفيلم في طرح ما كان من فبركاته بأن اختلق قصةً من مشاهد سابقة مفادها أن رجال الأمن أطلقوا النار على “مشروعهم” لكنه لم يزل حياً حتى أنهى رجال الأمن و«المرتزقة المدنيون” حياته رفساً وضرباً. وهذا ما كذبته النيابة العامة بتصريحها بأن سبب الوفاة كان طلقات الشوزن الانشطاري ولا وجود لكدمات أو رضوض في جسد المتوفى.
أسباب الإباحة
لاشك أن حماية سلطات الأمن حقوق المعتدي والمعتدى عليه، على حد سواء، تُعد من معايير الدفاع عن حقوق الإنسان واحترامها من قبل هذه السلطات، فالحق في الحياة لا يسقط وكذلك الحق في سلامة الجسد، لكن لكل هذه الحماية ضوابط تحكمها قواعد صارمة التطبيق يتمثل جزء منها في أحكام أسباب الإباحة التي اجتهد رجال الأمن في الاعتماد عليها عند تعاملهم مع الواقعة محل البحث، حفاظاً على حياتهم وحياة الأبرياء في سوق المحرق.
فكرة أسباب الإباحة تقوم في الفقه الجنائي على أن هناك حالات حصرها القانون تنتفي فيها صفة الجريمة عن الأفعال التي إذا ارتكبها الفرد في غير ظروف تلك الحالات لا تسقط صفة تجريمها ويستحق فاعلها العقوبة عليها. هذه القاعدة موجودة في كل القوانين الجنائية، سواء أخذت تسمية قانون الجنايات أو قانون العقوبات أو قانون الإصلاح الاجتماعي، فهي في ذاتها تحوي هذا المفهوم المُجمع عليه من كل الفقه الجنائي.
في قانون العقوبات البحريني تقع أسباب الإباحة في ثلاثة أشكال هي القيام بالواجب واستعمال الحق والدفاع الشرعي، ولكل شكل منها شروط خاصة تُضيق تطبيقها لأنها استثناءات، والقاعدة تقول إن “الاستثناء لا يُقاس عليه ولا يُتوسع في تفسيره”.
تعريف قوات الأمن
تُعَرِفُ المادة الأولى من المرسوم بقانون رقم (3) لسنة 1982م بشأن نظام قوات الأمن العام، هذه القوات بـ«قوات نظامية مسلحة تابعة لوزارة الداخلية وتختص بالمحافظة على النظام العام والآداب داخل البلاد وحماية الأرواح والأعراض والأموال، وتتولى هذه القوات اتخاذ التدابير اللازمة لمنع ارتكاب الجرائم وضبط ما يقع منها (...)”. كما تبين المادة (74) من المرسوم ذاته واجبات هذه القوات التي من ضمنها “عدم ترك العمل أو التوقف عنه لأي سبب من الأسباب دون تصريح من رؤسائهم” و«تنفيذ الأوامر المشروعة المتعلقة بواجبات الوظيفة والتي يصدرها رؤسائهم”. وإن خالف فرد من هذه القوات أداء واجباته “(...) يُجازى تأديبياً أو يُحاكم أمام المحاكم العسكرية بحسب الأحوال” وفقاً للمادة (80) من المرسوم. وعليه، فإن هذه النصوص، وغيرها، تلزم قوات الأمن أداء واجباتهم المتمثلة في “حماية الأرواح والأعراض والأموال” وإلا فإن مسؤولية المحاسبة تقع عليهم في حال التقصير أو التجاوز.
المادة (15) من قانون العقوبات تذكر دون تفصيل أن قيام الواجب أحد أسباب الإباحة، وعلة ذلك أن الواجب متعدد بحسب افتراض القوانين المختلفة له، فلا مجال لحصره في قانون واحد، وعليه جاء تفصيل القيام بالواجب بالنسبة لقوات الأمن العام في القانون المنظم لها والمتضح لمحة منه في ما سبق.
شروط استعمال السلاح
قانون قوات الأمن العام يعطي أعضاء القوات في سبيل تنفيذ واجباتهم، وفق المادة (12) “حق استعمال القوة بالقدر اللازم لتنفيذ تلك الواجبات وبشرط أن تكون القوة هي الوسيلة الوحيدة لذلك”. ولما كانت خصوصية هذه القوات تتمثل في حمل السلاح، فإن المادة (13) منعت استعمال السلاح إلا في أربع حالات على وجه الحصر، أولها “القبض على: كل محكوم عليه بعقوبة جناية أو بالحبس مدة تزيد على ثلاثة أشهر إذا قاوم أو حاول الهرب، وكل متهم بجناية أو متلبس بجنحة يجوز فيها القبض أو متهم صدر أمر بالقبض عليه إذا قاوم أو حاول الهرب”. وتكون الحالة الثانية عند حراسة المسجونين في وضعين اثنين هما: “صد أي هجوم أو أية مقاومة مصحوبة باستعمال القوة إذا لم يكن في مقدورهم صدها بوسائل أخرى، ومنع فرار أي مسجون إذا لم يمكن منعه بوسائل أخرى”. والحالة الثالثة هي “فض تجمهر أو تظاهر أو شغب (...)” بحسب الشروط والحدود المنصوص عليها في قانون العقوبات. والرابعة “الدفاع المشروع عن النفس أو العرض أو المال أو عن نفس الغير وعرضه وماله”.
وتبين تتمة المادة شروط تحقق فاعلية استعمال السلاح في الحالات الأربعة السابقة، وهي “أن يكون استعمال السلاح لازماً ومتناسباً مع الخطر المحدق، وأن يكون ذلك هو الوسيلة الوحيدة لدرئه بعد التثبت من قيامه وبقصد تعطيل الموجه ضده السلاح من الاعتداء أو المقاومة على أن يبدأ بالتحذير بإطلاق النار للإرهاب كلما كان ذلك مستطاعاً ثم التصويب في غير مقتل”.
«الدفاع المشروع»
و«الدفاع الشرعي»
ورغم أن الحالة الرابعة من حالات إباحة استعمال أعضاء قوات الأمن السلاح تُعنى بـ«الدفاع المشروع” إلا أنها تختلف عن سبب الإباحة الواقع تحت تسمية “الدفاع الشرعي” المبين في قانون العقوبات وفق المواد (17 – 18 – 19 – 20)، وذلك في أن “الدفاع المشروع” المتأتى لرجال الأمن لا يُجيز القتل العمد باستعمال السلاح على اعتباره اشترط “التصويب في غير مقتل”، بينما في “الدفاع الشرعي” أباح المشرع القتل العمد، دون توصيف الأداة، بحسب المادة (20) من قانون العقوبات التي تقول “لا يُباح القتل العمد دفاعاً عن النفس أو المال في غير الحالات الآتية: 1- فعل يُخشى منه الموت أو الجراح البالغة. 2- جناية اغتصاب أو اعتداء على العرض أو اعتداء على الحرية. 3- جناية حريق أو إتلاف أو سرقة. 4- جريمة الدخول ليلاً في منزل مسكون أو ملحقاته”.
السبب في هذه التفرقة رغم تشابه الوضعين، صفة الاختصاص التي يضطلع بها رجال الأمن، فهم من ناحية مدربون على رد الاعتداء بوسائل تحقق الردع المتناسب وفعل العدوان مع حفظ حق الحياة للمعتدي بالقدر الأكبر من الحرص. ومن ناحية أخرى، إن رجال الأمن بصفتهم العسكرية يتعاملون مع مدنيين، وفي هذه الحالة هناك لفتة تتحرى التفريق بين وسائل التعامل مع الاحتجاجات والأعمال غير المشروعة التي يكون فاعلوها من المدنيين وبين وسائل الدفاع والهجوم المستخدمة ضد المحاربين من العسكريين ومن شابه صفتهم كالجماعات المسلحة والجماعات الإرهابية. ومن ناحية ثالثة، فإن السلاح الذي يكون مجازاً من الدولة في يد العسكري غير متاح لسواه عند تعرضهما لذات الفعل.
أما بالنسبة لإباحة القتل العمد في الدفاع الشرعي، فإن الحالات المحصورة في القانون أجازت ذلك وفق الشروط الخاصة بالدفاع الشرعي لأن المدافع عن حقه ضد الاعتداء غير المشروع يكون غير ذي صفة اختصاص تجعله قادراً على رد الاعتداء بوسائل يحافظ فيها على حقه في الحياة وحق المعتدي عليه فيها في الوقت ذاته، وعليه فإن غلبة الظن بدفاع المعتدى عليه عن حياته لا تكون إلا بإزهاق روح المعتدي تطبيقاً لمبدأ أولوية حماية حق المعتدى عليه على المعتدي، وذلك مع التنبيه إلى وجوب توافر شروط الدفاع الشرعي التي حددتها المادة (17) من قانون العقوبات بقولها “تقوم حالة الدفاع الشرعي إذا توافر الشرطان الآتيان: 1- إذا واجه المدافع خطراً حالاً من جريمة على النفس أو على المال أو اعتقد قيام هذا الخطر وكان اعتقاده مبنياً على أسباب معقولة. 2- أن يتعذر عليه الالتجاء إلى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب. ويستوي في قيام هذه الحالة أن يكون التهديد بالخطر موجهاً إلى نفس المدافع أو ماله أو موجها إلى نفس الغير أو ماله”. بالإضافة إلى ذلك، يجب التنبيه أيضاً إلى خصوصية حالات إباحة القتل العمد في الدفاع الشرعي كما أُسلف ذكرها.
استعمال السلاح
ضد المعتدي قانوني
وإذا ما أُسقطت الحادثة محل البحث على ما سبق، فإنه يتضح وجود المتوفى في حالات تبيح استعمال رجال الأمن السلاح ضده، وهي الحالتان الثالثة والرابعة من المادة (13) في قانون قوات الأمن العام، سابقة الإيراد. مع الملاحظة أن بعض المصادر الإخبارية أكدت أن المتوفى “قام بحرق سيارتين بتاريخ 27 يوليو الماضي، وصدر أمر القبض عليه بتاريخ 15 أغسطس الجاري وقُتل بعد يومين إثر محاولة رجال الأمن ردع فعله الإجرامي”. هذا الخبر، إن صح، يُحرك الحالة الأولى من المادة السابقة بجنب الحالتين المذكورتين. وبالنتيجة هنا لا تُثار إشكالية قانونية في استعمال السلاح ضد المتوفى بعد استتباع الشروط الخاصة به.
تحقيق النيابة العامة
لكن، تبقى إشكالية نتيجة استعمال السلاح، لأن أحد شروط الاستعمال كان بـ«التصويب في غير مقتل” والمعتدي توفي من طلقات الشوزن، أي أن السلاح تسبب في مقتله بدلاً من ردعه وإعاقة حركته كما كانت بغية المشرع. الواقع أن هذه الإشكالية لا تحلها الفرضيات والاستنتاجات وقراءة النصوص القانونية، إنما يكون حلها من نتائج تحقيق النيابة العامة في الواقعة بعد الاعتماد على تقرير الطبيب الشرعي، وهذا ما أعلنت النيابة عن الشروع فيه. ولأن هذا التحقيق لا تسري أعماله في العلن لضمان الدقة والابتعاد عن إثارة الرأي العام، فإنه لا غنى عن الفرضيات والاستنتاجات وقراءة النصوص التي تُجيب مؤقتاً وبصورة اجتهادية عما يعتمل في النفوس من تساؤلات حول القضية.
تلك الصورة الاجتهادية تقول إن التحقيق الرسمي لن يخرج عن إحدى ثلاث نتائج، الأولى حسن نية رجال الأمن مع اتباعهم شروط استعمال السلاح بتثبت وتحري، ما يجعل فعلهم ضمن أفعال الإباحة النافية على الفعل صفته الإجرامية، رغم وفاة المعتدي، وبالتالي لا عقوبة جنائية أو التزام مدني يقع عليهم. النتيجة الثانية تكون بعدم تثبت وتحري شروط استعمال السلاح مع توافر حسن النية، وهنا تحَكَمُ المادة (21) من قانون العقوبات القائلة “يُعد تجاوز حدود الإباحة بحسن نية عذراً مخففاً. ويجوز الحكم بالإعفاء إذا رأى القاضي محلاً لذلك”. وتكون النتيجة الثالثة اتهام رجال الأمن بارتكاب جريمة عمدية، إذا ثبت سوء النية وعدم تثبت وتحري شروط استعمال السلاح في الواقعة.
«اسحقوهم» يتحمل
الإثم قانوناً وشرعاً
يتحمل صاحب فتوى «اسحقوهم» مسؤولية الضحايا فهو من دعا إلى ”سحق” رجال الأمن بزعم أنهم يعتدون على أعراض “المؤمنات”، وهي فرية كذبتها حوادث ومظاهر كثيرة.
التحريض الذي يخرج من هذا الشخص، لا يليق بوقار شيخ اشتعل رأسه شيباً، بل هو لا يصطلح وحال العقلاء من الناس، لأن كل فعل يُبنى على انفعال مدفوع من جمل تحريضه التي هي من مثال “اسحقوه” لا يتحمل هذا المحرض تبعات جرم الفاعل قانوناً فحسب، إنما يكون أيضاً مسائلاً شرعاً على ما تُحدثه هذه الأفعال من أضرار في حق المعتدي والمعتدى عليه، وبالتالي فإن الوزر والإثم الأكبر يتحمله، أمام الله، الولي الفقيه الذي لقن مريديه فلسفة “السحق”.