وحده شعر الشاعر من يحدد شاعريته بين الكاتب والكويتب، الشاعر والشويعر، المثقف والدعي، شيء أساسي لا تخطئه البصيرة السوية، ألا وهو الموهبة، فالكاتب، والشاعر، والمثقف، موهوب، والكويتب والشويعر والدعي عن الموهبة عاطل.
الموهوب، كاتباً كان أم شاعراً، قد يغار من غيره، وقد يخاصمه في حمّى المنافسة، لكنه لا يبخسه حقه. قد يبحث عن سقطاته وهناته، وربما يُضخم هذه الهنات والسقطات، لكنه بالقطع، لن يجرؤ على الادعاء بإن شاعراً كبيراً ليس بشاعر، وكاتباً مبرّزاً لا يتقن حرفة الكتابة، وحدهم عديمو الموهبة، الكويتبون والشويعرون وأدعياء الثقافة من يجرؤون على قول مثل هذا القول، والسبب في هذا بسيط، فهؤلاء لا يفهمون الموهبة، وغير قادرين على تحديدها، بله الوصول إليها، ولأنهم يجهلونها، فليس ثمة قيمة لها عندهم، وصدق من قال الإنسان عدو ما جهل.
وحده شعر الشاعر من يحدد شاعريته، فلكي تكون شاعراً عليك بتقديم منجز شعري، وليس ثمة من يُخطئ في كون الشعر شعراً أم لا، ولكن ثمة من يختلف في تقييم هذا الشعر، أكان في المرتبة الأولى، أو الوسطى، أو كان في سياق شعر المبتدئيين، ولهذا قالوا شاعراً مُجيداً، وشاعراً حسناً، وشاعراً وسطاً، وشاعراً عادياً، وهذا هو شأن كل الأمور، فالحداد والبناء، والنجار، والمعمار، وصانع الحلوى، ينقسمون إلى مراتب، بحسب إجادة كل منهم لصنعته.
في الشعر ثمة تمييز بين إجادة النظم، أي صنعة النظم، وإجادة الشعر، فقد يكون البعض مُجيداً في النظم، على قواعد الخليل بن أحمد الفراهيدي، دونما عيب أو زحاف، أو علة، لكنه فقير الشاعرية، لا بل معدومها، ومثل هذا يقال له (ناظم) أو (نظّام) ولا يُقال له شاعر، فجوهر الشعر ليس النظم، ولا هندسة الكلام، ولا إيقاعه، وإنما الخلق الشعري عبر الصورة الشعرية، هل ثمة من يستطيع الإدعاء بأن الشعر التعليمي، وألفية إبن مالك، و(كرتي ما أحلاها شكلا ** هي كالتفاحة أو أحلى) تندرج في عالم الشعر، أم في طرائق التعليم، وتقريب الأشياء إلى الذهن، أو تبسيطها، أو جمعها، أو تسهيل حفظها.
الناظم حرفي جيد، هو كالحداد الجيد الذي يُحسن التعامل مع الحديد، لكنه ليس نحاتاً، وهو كالخزاف الذي يجيد صنع قطعة الخزف، لكنه ليس فنانا تشكيليا، الأول حرفي، والثاني فنان، والفرق بين الاثنين، أن الأول يتوقف عند إتقان المهنة التي تؤدي لغايات معينة يحددها الاستعمال، والثاني يبحر في عالم الابتداع والتصور، وإعادة تشكيل الأشياء برؤية ذاتية خلاقة، مُتميزة، تحوّل الحديد وقطعة الفخار، من قيمة استعمالية إلى قيمة جمالية.
قالوا وأمعنوا كثيراً في القول، إن ما يحدد قيمة أي شاعر موقفه، وتأسيساً على هذا قسموا الشعراء، إلى شعراء مُلتزمين، وآخرين غير مُلتزمين، وهذا فتح الباب على مصراعيه لتوسيع الخانات، إذ لم يتم الوقوف عند التمايز السياسي، بل تعداه إلى هل هذا الشاعر متقيد دينياً، هل هو رسالي مثلاً، على نسق حسان بن ثابت، وكعب بن زهير بن أبي سلمى بعد إسلامه، أم على نسق أبي نؤاس، وبشار بن برد، وهل هو قومي أم شعوبي.. وهل هو مهادن للسلطة أم ضدها.. إلخ من تقسيمات لا علاقة لها بالشعر، وهي تندرج جملة وتفصيلاً في إطار حراك سياسي، وربما طبقي، يرتدي لبوسات عدّة، أثنية أو دينية، أو مذهبيّة، قد يكون الشاعر كإنسان منغمساً بها، شأنه شأن غيره، وهو إن استغل أداته الشعرية للتعبير عن هذا الانتماء أو الانغماس، أو حتى الولاء، فعلينا أن نجيب على سؤال محدد قبل الحكم وهو: هل ما قدمه هذا الشاعر شعراً، أم شعارات، إبداعاً أم بيانات؟ فإن كان ما قدمه لا هذا ولا ذاك، وإنما شعراً، فلا يهم بعد هذا إن كان هذا الشعر قومياً، أو وطنياً، سنيّاً أم شيعياً، إسلامياً أم مسيحياً، دينيّاُ أم تأملياً فلسفياً، وحتى لا يهم إن كنا معه من حيث التوجه أم ضده، فهو سيقدم لنا ما يقدمه الشعر من متعة جماليّة، ستعكس التنوع والثراء الذي سيعمق رؤيتنا، ويوسع أفقنا، ومنظورنا.
ألسنا الآن نردد خرائد خالدة قيلت في طغاة على مدى تأريخنا العربي، وخلدت لأنها كانت قمماً من حيث القيمة الشعرية، هل بمقدور أحد مسح هذا المنجز الشعري من تأريخنا الأدبي، الأموي أو العباسي، وحتى في العصر الحديث؟ هل بمقدور أحد أن يحذف قصائد الجواهري الكبير في مدح الملك فيصل الأول، أو الحسن الثاني، أو حافظ الأسد، وحتى الذي يختلف مع الحركة الكردية هل بمقدوره عدم الإعجاب، بـ:
قلبي لكردستان يُهدى والفمُ ** ولقد يجود بأصغريه المُعدمُ
الالتزام من عدمه، سيحدد لنا المُلتزم، أو المناضل، أو المرتبط بقضايا مُحددة، من ذاك الذي هو ليس هكذا، أي غير الملتزم بما ألزم المناضلون أنفسهم به، ولا بقضايا محددة، لكنه لا يحدد لنا الشاعر من غير الشاعر، ولا الشعر عما سواه، والذي سيخلد بعد هذا وذاك ليس الالتزام على أهميته، وإنما الإبداع، مُلتزماً كان أم غير مُلتزم.