أحمــــــــــــــد جاســـــــــــم
أغرب شي في حياتي أن أجلس في البيت وأقول: أشعر بالملل.. لا يوجد عندي شيء أفعله !! ولعل سبب الاستغراب ماجبلت به نفسي من همة العمل لأجل تحقيق أهداف كبيرة في حياتي تتعلق بتخصصي وحبي للارتقاء بثقافة الطفل، لذا كانت الكتابة والقراءة ومشاريع الثقافة والمسرح وما يتبع ذلك من سفر وتعاقدات مع مؤسسات ووزارات وغيرها، مما يتطلب دفع الفراغ بداهةً.
لذلك أستغرب على من يظل حبيس الملل في بيته فيلجأ للتلفاز أو الهاتف أو الآيباد وبرامج الآيفون ساعات طويلة لا لشيء إلا لقتل الوقت، ومع سهولة استخدام الإنترنت في عالم الهواتف الذكية ضاعت لحظات التخطيط والتأمل والتسبيح والاستغفار وحفظ القرآن والخلو مع النفس في قراءة كتاب أو صياغة مشروع أو حتى الدراسة الجادة، لأن رنات الهاتف في المكالمات وفي رسائل الفيس بوك والتويتر والواتس آب لا تسمح لك بالهدوء مع النفس، كل تلك الأفكار لا تزيد الواحد منا إلا مللاً إلى ملل، لأنك مازلت تشعر بأنك متفرج لا تملك ذائقة الاختيار فكل هذا ما هو إلا دعوات استجبنا لها وصراخ هنا وهناك فصفقنا له، وقد قال الصالحون قديماً: “النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية”، لذلك فمقياس امتلاك الهواتف والأجهزة الذكية الحديثة ليس دليلاً على تطور الناس وأنهم يشغلون أوقاتهم بالمفيد، بل إن خسارة الأوقات أصبحت أضعاف أضعاف ما كانت عليه في السابق، بسبب سوء استخدام هذه الأجهزة في تناقل النكت ومقاطع التفاهات والسوالف الساذجة، لذلك يستمر الملل والفراغ الطويل.
عندما أشاهد غفلة الناس وشدة تركيزهم مع الآيفون والآيباد والبلاك بيري وهم يمشون في الطرقات وفي السيارة وفي جلسات الأهل والمحاضرات أستحضر الصور المعاكسة التي قرأتها وتأثرت بها قبل سنوات طويلة. ومن ذلك قصة العالم ثعلب النحوي الذي أصيب بصمم فكان يمشي – ذات مرة – في الطريق وفي يده كتاب يقرؤوه فصدمته فرس ومات، أو موقف الإمام مسلم وقد جلس في مجلس فذكر له حديث لم يسمعه من قبل فاستنكر على نفسه ذلك وراح يبحث عنه في البيت وقد وضعت له سلة من التمر فراح يأكل ويقرأ إلى أن أفنى التمر حتى توفي جراء ذلك، ولعله كان مصاباً بداء السكري وهو لا يشعر، وقيل إن العالم النحوي الكبير أبو بكر الخياط كان يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة، وهناك أمثلة كثيرة جداً تجدونها في كتابي “قيمة الزمن عند العلماء” وكتاب “صفحات من صبر العلماء” للعلامة الكبير عبدالفتاح أبوغدة رحمه الله ، لأن هذه المواقف تشعرك بجدية أولئك في التركيز في الوقت الذي تفصح لك فيه عن هزلية الكثير منا في التعاطي مع الأجهزة التقنية الحديثة.
ونصيحتي لمن أراد أن يشغل نفسه عن الملل والفراغ عليه أن يصيغ لنفسه مهمة كبرى يؤدي فيها رسالة في حياته، فيكون هو القارئ والكاتب والمصمم والصانع والمسافر وهو نفسه الباحث في الهواتف الذكية عن برامج ومقاطع فيديو وصوت تنمي علمه وذوقه.