قصة قصيرة – جعفر الديري:
«الجسر في غبش الفجر مرتقى الروح. الجسر في غبش الفجر لايزال يعني لي الكثير. الجسر في غبش الفجر أخلى مكانه لحياة أخرى. الجسر في غبش الفجر كان ملتقى الأصدقاء والصديقات. الجسر في غبش الفجر لايزال موسيقى صاخبة؛ أحملها في جيبي وأخفيها عن عين المارّة”...
قالت وداد: ألا تكفّ عن هرائك هذا؟
أجبتها: ولماذا يا جميلة الوجه وسليطة اللسان؟
قالت: لأنّك حالم لا تقف على أرض صلبة
قلت: لو انك لمست بيديك جماجم الموتى؛ لما كان مكانك سوى السحاب
قالت: لقد شاهدت من الأهوال ما يروّع أمة بأكملها
تطلعت ناحية يمين الجسر، طويل كان. لمحت سمر ويحيى ينعمان بلحظة صفاء فغبطتهما على ما هما فيه. تطلعت إلى اليسار، كان المكان موحشاً. لكن مديحة وخليل كانا هناك أيضاً. لعنت نفسي.. رأيت الجنود وقد شدّوا بالحبال مثل قطيع من الغنم، وجوههم مسودّة وأجسامهم ضعيفة، حتى أيديهم لا طاقة لهم على رفعها. لقد ترك الحارس الحبل وراح يدخن يقينا منه بضعفهم!. أما أنا فكنت هنا على هذا الجسر، أنتظرهم بفارغ الصبر، مؤملاً رؤيتهم في حال أفضل. صدمت حتى شعرت بالغثيان. كانت سحناتهم أشبه بلون الضباب، بحركة عقرب تدوس على رأسه، بنهر مليء بالأوساخ، بسمكة متعفنة في جوف سمكة قرش. احتضنتهم واحداً واحداً، لكن أحداً منهم لم يتعرف علي، رغم أني ناديتهم بأسمائهم.
قالت وداد: ما بك شردت بعيداً؟
قلت: لماذا تتعمّدين العودة بي لتلك الأيام؟
قالت: كان مجرّد سؤال؟
قلت: وماذا أفعل مع عقلك الذي لا يريد أن يفهم؟
قالت: أوووه.. لم يمض على لقائنا سوى شهر واحد ولسانك لا يكف عن سلقي؟
قلت: هذا ما جنته يداك
قالت في عصبية: سأتركك.. لا طاقة لي على مصاحبة معقد مثلك.
اذهبي.. لست الأولى ولن تكوني الأخيرة، نسيت أن تعيريني بالدائرة الكبيرة في وجهي وبالعين الحولاء، وبالكف المتصلبة. الغريب إنكن تحببن التعرف على مشوّه مثلي، ولا يقرفكن هذا الوجه وهذه اليد، بل تتمنين صحبتي حتى نهاية العمر، لكنكن لا تتحملن سلاطة لساني. أنتن تعشقن أسداً أمام الناس، وحملاً وديعاً معكن، يزجي لكنّ المديح ليل نهار، ويهبكن الأولاد، والبنات. “في الليل زوج وفي النهار أمة”. كيف لك أن تعرفيني على حقيقتي، أنا الذي شهدت ما لم تشهديه وركبت ما لم تركبيه. كيف يكون شعورك وأنت تحملين ذراعك صديقك من على الأرض؟! كيف لعينيك أن تتحملا رؤية الدم متفجرا من عينيه؟! كيف لك أن تميزي الموسيقى المنبعثة من جرج غائر في البطن؟! كيف لك أن تتخيلي نفسك محصورة بين عمودين! وكيف لك أن تتحملي الجلوس مع رجل ممتلئاً بالمشاهد، حتى لتكاد تخرج من فتحات وجهه؛. تقرأين كتابك وأنت تسرّحين شعرك، تركضين على هذا الجسر وتمرحين، تدعين أنك ذو علاقة طويلة معه، منذ كنت في السابعة، وأنت الآن في السابعة والعشرين، لكنك لا تعلمين ماذا يشكّل لي هذا الجسر؟!. المومس العرجاء كانت تدرك ذلك؛ رأتنا نهرع إليه وفي أفواهنا بقايا إفطار الصباح، حتى إذا وقفنا بانتظار الباص، قالت ساخرة: لن تعودوا إلى بيتوكم!.
كان أسبوعاً لا غير، لكنه كان كافياً لحرقنا. يحيى كان الوحيد الذي سمع كلامها، فترجّل من الباص، سخرنا منه ومن جبنه، تندرنا عليه، وجعلناه أضحوكة. لكنني عدت بكف واحدة وعين لا ترى، ونصف لسان، أما هو فظل في أبهى صورة، ازداد وسامة وجمالاً، وأنجب ابنتين كحبات اللؤلؤ، فيما بقيت أنا لا أحد معي ولا شيء...
أرجوك يا سمر لا تنظري إلي هذه النظرات. أنت اليوم زوجة وأما لطفلين، صحيح أن يحيى جبان لكنه يحبك. لست الوحيدة التي لم تعرف معنى السهر، إن قصارى حظك من الدنيا هذا الشعاع، فلا يغرّنك ما في عيني من بريق، إنه يخطف الأبصار لكنه يخطف السعادة أيضاً. لا تقتربي مني، لقد تركتني وداد، فأذهبي يا سمر. إن جميعكن تطلبن بيتاً وأولاداً، ويحيى لن يبخل عليك بهما.
سمر.. لا تخجلي من نفسك أبداً، كان حلماً وانتهى، تأملي فيّ الآن، سأذكرك ليل نهار باللون الأسود، بالطفل المشنوق ورائحة البارود، بالقارب وقطعة الشوكولا التي امتزجت بقبعة الفتاة اليتيمة. لقد ولّت وداد، كما ولّت من قبلها مديحة، فلا تظلّي هنا حتى يفتح الله، ويتغير هذا الوجه، فإن الأمر عسير، والدرب طويل، ولن أشرب ثانية ذلك الدواء، فقطراته لا تبقي شيئاً من نور عيني.. أتراني اتكأت على جنبي الأيمن لكي أشذّب الآخر، ربما.. لكنني أعرف من أمر هذا الجسر أنه شهد يوماً مارداً له خمسمائة ذراع.. كان بانتظارنا عندما عدنا، بالباص نفسه، جن زهير، وتصلب جذع سامي، وفقأت عين نبيل، جميعنا عاد بنا الباص نفسه، كأنما ذهبنا لندفن أعضاءنا.