في ليلةٍ باردة موحشة وقبل منتصف الليل بنصف ساعة أنهيتُ نوبتي المسائية في عملي الجديد الذي حصلتُ عليه منذ أسبوع في مصنع الحديد. وفي طريق عودتي إلى مسكني في تلك الليلة القمرية مشياً على الأقدام، رافقني أحد الزملاء وهو الذي قد تعرفت عليه منذ يومين في موقع العمل، ولعلمه بأنني حديث الإقامة في هذه المنطقة اقترح علي اختصار الطريق إلى منازلنا عبر الغابة، تلك الغابة التي تفصل بين المصنع والمدينة.. أبديت خشيتي ولكن لشدة إرهاقنا قررنا اختصار الطريق لكسب الوقت وسرنا بين الأشجار الكثيفة المتشابكة.
وعندما اقتربنا من منزل صديقي الذي يقع داخل الغابة وتحديداً على أطرافها على بعد عشرات الأمتار من الطريق العام الذي يفصلها عن المدينة حيثُ أسكن، وبطريقة كوميدية عبرت عن قلقي الذي هو حقيقي من السير وحيداً تلك الأمتار المتبقية فقال لي مطمئناً: لا تخف يا صديقي فإنني أسكن في هذا الكوخ منذ زمن ولم يحدث لي شيء قط ، فقلت له إنك فعلاً شجاع! كيف تسكن في هذه الغابة الكثيفة المخيفة وحدك؟ إنك فعلاً رجلٌ شجاع!!.
ودعته ومضيت في طريقي فبدأ الوسواس يوسوس لي وبدأت الهواجس والظنون تتلاعب بي وصرت أتخيل الخيالات المخيفة التي أججها صوت الصراصير الليلية وفي لحظةٍ ما! أحسست بشيء يتبعني، يسير خلفي، يزحف ورائي، يهمس لي!! قلت في نفسي لا هذا خيال؟ ولكن استمر شعوري بشيء يلحقُ بي ويتبع خطواتي ويقترب يقترب!! إلى أن سمعت صوتاً خافتاً من خلفي يحدثني!! قائلاً: أنت أنت يا هذا انتظر، لقد أخطأت في كلامك إنني استمعتُ إليك... حاولت أن أسرع فتكرر النداء!! لا لا انتظر يا هذا إنك مخطئ انتظر أرجوك! فلم تستطع أقدامي أن تحملاني من شدة الخوف فتسمرت مكاني وتوقف ذلك الشيء عن ملاحقتي ولم يفصل بيننا إلا صوت أنفاسه! وبينما كان جسدي يرتجف وكاد قلبي أن يقف! التفت إلى الخلف ببطء شديد من شدة القلق وناظرت بأطراف عيني اليمنى فلمحتُ شيئاً قفز واختفى وراء الشجرة ، ثوانٍ من الصمت كنت أخير فيها نفسي من العودة لأرى ما خلف الشجرة أم أركض إلى الشارع العام الذي بات قريباً وها هي أضواء المدينة تتلألأ أمامي، أممممم! أذهب أم أعود؟ أذهب أم أعود؟ وخلال تلك الثواني الطويلة رأيتُ رداءً أبيض يداعبه الهواء يظهر ويختفي خلف جذع الشجرة التي اختبأ وراءها ذلك الشيء.
لم يطاوعني قلبي في الهروب خشيةً من هذا الشيء الذي خلف الشجرة أن ينقض عليّ وبسبب الفضول أيضاً فذكرت الشهادتين وتقدمت إلى الشجرة. اقتربت واقتربت ببطء ذهبت خائفاً نظرت فماذا رأيت.. رأيتُ امرأةً جميلة لا تشبه نساء الأرض تنظر إليّ بصمتٍ وحيرة وكانت تضم كفيها إلى بعض، سألتها من أنت؟ وماذا تريدين؟ قالت: لقد أخطأت يا هذا في كلامك لقد سمعتُك ماذا قلت إلى صديقك عند منزله فأردت أن أنبهك إلى الصواب فيبدو أنك غافل كما أكثر الناس هذه الأيام! قلتُ وقالت، قلتُ وقالت، وفي الأخير سألتها بسخط من أنت وماذا تريدين مني!؟
فقالت : إنني أنا الشَجاعة ولقد تخليتُ عن لقبي وأرسلتهُ إلى الشام ليُدفنَ هُناك في مقبرة دمشق! فإذا رأيتَ أحداً يوماً ما يقومُ بعملٍ شُجاع وبطولي فلا تقل له أنت شُجاع بل قل لهُ أنت (سوري) لأن الشعبَ السوري غَيَّرَ مَعنى الشَجاعة.
علي المحميد