لجنة الدعوة والإرشاد - جمعية التربية الإسلامية:
يدرك كل ذي بصيرة غيور على أمته ودينه أن الداء العضال الذي أصاب الأمة في وقتنا الحاضر لا يعالج بالأمنيات والشعارات، ولا بإطلاق العبارات ويسير التحركات، ولا بإصدار البيانات وتحريك المظاهرات.
وإنما يعالج بمنهجية عريقة وسنين طويلة وجهود كبيرة من العمل والإصلاح، ويقف المصلحون عنده وقفات تصحيحيّة، ويضعون له حلولاً جذريّة ومعالجات ربانيّة:
تارة بالحلول القرآنيّة والإرشادات النبويّة. وتارة أخرى بالسياسات الشرعيّة والتراتيب الإدارية. وتارة ثالثة بالخطط العلمية والبرامج التربوية.
إذ مهمة المصلح مهمة عظيمة ووظيفته وظيفة دينية شرعية لا يقدر عليها إلا من جمع بين حسن الفهم وسلامة القصد، واتصف بهمة عالية وعزيمة صادقة وبصيرة نافذة...
وقد تيقن أهل الإصلاح -في كل العصور- يقيناً جازماً أن الإصلاح الشّرعيّ ليس مجرّد تغيرات تطرأ، أو شعارات ترفع، أو رموز تهزم، أو وزارات تقهر، وإنما هو إصلاحٌ شرعيٌّ يستند إلى ثلاث مقدمات:
- أولها: الأمر بالواجب والعلم بالواقع.
- والثانية: الاعتناء بالأولويات في كل مرحلة من مراحل الإصلاح.
- والمقدمة الثالثة: أن الإصلاح في كل صوره وأشكاله منوط بالقدرة ويدور مع رجحان المصلحة وظهور الحكمة.
وعلى هذه المقدمات الثلاث يبنى الإصلاح الشرعي الذي يعيد للأمة وجودها ومجدها ويحفظ لديننا الحنيف أصوله وقواعده وثوابته.
وها هنا قضية مهمة، وهي: أن الإصلاح المعتبر الذي تظهر فوائده وثماره هو الإصلاح الشامل المتدّرج وليس الإصلاح الناقص المتعجّل، فالإصلاح من حيث أنواعه هو الإصلاح الدينيّ الاجتماعيّ السياسيّ:
فالديني يمر بمراحل والاجتماعي يمر بمراحل. والسياسي -هو الآخر- يمر بمراحل.
فالانتقال مرة واحدة من الدينيّ إلى الاجتماعيّ، ومن الاجتماعيّ إلى السياسيّ، من غير اعتماد التدرّج في كل نوع واستكمال العناصر في البناء خلل عظيم يفضي -غالباً- إلى تضييع الجهود وتشتيت المصالح وتعريض الأمة إلى مزيد من الفتن والمحن.
فالخلل الواقع من بعض المشتغلين في ميادين الإصلاح لا يقتصر على جانب التعجل، بل هو خللٌ عامٌّ في الوسائل والمقاصد، وفي المقدمات والمنطلقات، وفي المفاهيم والتصورات، وفي المناهج والنظم.
منطلقات الإصلاح الشّرعيِّ الشّامل
إذا كان الإصلاح قائماً على أسسٍ صحيحةٍ ومقدماتٍ سليمةٍ، وفيه مراعاة لقاعدة التدرُّج، فيبدأ فيه المصلحون بالأهمِّ فالأهمّ، وبالأسهل قبل الأصعب، وبالواجب قبل المستحب، وبالمقدور عليه قبل المعجوز عنه، فإن فوائده تظهر وثماره تَنضَج، ويكون -بهذا الاعتبار- الطريق الأقوم للحفاظ على الموجود والسبيل الأسلم لإرجاع المفقود، بل يكون الطريق الأمثل لتحصيل المصالح وإزالة المفاسد عن الفرد والمجتمع.
وتحديد منطلقات الإصلاح وتعينها من قبل المصلحين والتدرُّج بها في المعالجة لا تقوم على التجارب البشرية والتنظيرات العقلية والنتائج البحثية فحسب، بل تستند أصالةً إلى الحقائق الشرعية القطعية والمناهج الربانية الدينية التي اعتمدها الأنبياء والرسل في إصلاح أقوامهم.
وهذه المنطلقات بحسب ترتيبها الوجوديّ والشرعيّ نرى بينها ارتباطاً في المعنى وتناسباً في المبنى، فهي مرتبة بحسب الوجود، ومتدرّجة بحسب الوجوب، وتنتهي كلها بالتاء المربوطة، وهي: إصلاح الخاطرة، وإصلاح الفكرة، وإصلاح الإرادة، وإصلاح الكلمة، وإصلاح الطاعة، وإصلاح الصحبة، وإصلاح الأسرة، وإصلاح المعاملة، وإصلاح الدعوة، وإصلاح الإدارة، وإصلاح القدوة، وإصلاح الولاية، وإصلاح السياسة، وإصلاح الدولة، وإصلاح الأمة، وإصلاح الحضارة.
وترجع هذه المنطلقات إلى أصلين عظيمين:
الأول: إصلاح النفس والذات بالعلم والإيمان.
والأصل الثاني: إصلاح الواقع بالواجب.
وتتوزع هذه المنطلقات على هذين الأصلين بقسمة عادلة، حيث تتفرع عن الأصل الأول منطلقات ثمانية، وهي: إصلاح الخاطرة والفكرة والإرادة والكلمة والطاعة والمعاملة والصحبة والأسرة.
في حين تتفرع عن الأصل الثاني -وهو إصلاح الواقع بالواجب- المنطلقات الثمانية الباقية، وهي: إصلاح الدعوة والإدارة والقدوة والولاية والسياسة والدولة والأمة والحضارة.
ولو تأملنا الآيات الشرعية والسنن الكونية لتيقنا أن إصلاح الواقع هو ثمرة إصلاح النفس، وأن إصلاح النفس هو أصل وأساس لإصلاح الواقع، إذ تغيير الواقع متوقف على تغيير النفس، فبداية التغيير من الإنسان ونتيجة التغيير وثمرته من الله تعالى، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
وقد جاء في تفسير هذه الآية عن التابعي المشهور قتادة -رحمه الله- أنه قال: “إنما يجيء التغيير من الناس والتيسير من الله؛ فلا تغيروا ما بكم من نعم الله”.(رواه ابن أبي حاتم في تفسيره برقم 12202).
مقومات الإصلاح الشّرعيِّ
الشّامـــل وعناصـــره ومـــوادّه
الإصلاح الشّرعي الشامل لا ينهض بمجرد تحديد المنطلقات، بل لا بد من تعيين المقومات والعناصر التي تتم بها عملية الإصلاح، وإلاّ يبقى الإصلاح شكلاً بلا مضمون، وصورةً بلا حقيقة، وتنظيراً بلا تطبيق.
فالمنطلقات بمثابة المراحل التي يحددها الطبيب في علاج المريض.
أما المقومات والعناصر فهي بمثابة الدواء التي يصفه الطبيب للمريض، فلا يبقى بعد ذلك من الأسباب إلا استعداد جسم المريض لقبول العلاج، ومهارة الطبيب في المعالجة، أما نتيجة الشفاء فهي على الله -تعالى-.
ويمكن القول بأن الوقوف على عناصر الإصلاح ومقوماته ومواده يعين المصلح الربانيّ على المعالجة الدقيقة للواقع من جهة، ويمكِّنه من استظهار معالم المنهج الشرعيّ في التغيير والإصلاح من جهة أخرى، بعيداً عن مخاطرات أهل التعجّل أو مقامرات أهل السياسة أو مجازفات أهل الهوى.
وإذا تعيّنت عند المصلح الربانيّ المنطلقات والأولويات وعلم من أين يبدأ، وتبينت له المقومات والعناصر والمواد شرع بعد ذلك بحسب الإمكان بالإصلاح المتدرّج الشامل الجامع للوسائل والمقاصد والمركب من المراحل والعناصر على النحو التالي:
1- إصلاح الخاطرة بالمراقبة:
وهو المنطلق الأول في الإصلاح، فيبدأ الإنسان بإصلاح خواطره وهواجسه وحديث نفسه، إذ مبدأ السيئة من حديث النفس والخاطرة، لهذا قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
وجاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في “صحيحه” عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيما يروي عن ربه -عز وجل- وفيه: “ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة”.
2- إصلاح الفكرة بالعقيدة:
لأن إصلاح العقل والفكر لا يكونان إلا بسلامة الاعتقاد وصحة التوحيد، كما قال -تعالى- على لسان إبراهيم -عليه السلام-: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)).
لهذا جعل الإسلام إصلاحَ التفكيرِ هو الأساس لكل إصلاح سواء كان إصلاحاً دينيّاً أو اجتماعيّاً أو سياسيّاً، يقول الطاهر بن عاشور -رحمه الله- “وكان إصلاح الاعتقاد أهم ما ابتدأ به الإسلام، وأكثر ما تعرض له، وذلك لأن إصلاح الفكرة هو مبدأ كل إصلاح، ولأنه لا يرجى صلاح لقوم تلطخت عقولهم بالعقائد الضالة، وخسئت نفوسهم بآثار تلك العقائد المثيرة خوفا من لا شيء وطمعا في غير شيء. وإذا صلح الاعتقاد أمكن صلاح الباقي، لأن المرء إنسان بروحه لا بجسمه”.
3- إصلاح الإرادة بالإخلاص:
أي: لم يكن القصد من الإصلاح مجرّد مخالفة الناس ومعارضتهم وتخطئتهم والتشهير بهم، وإنما تكون إرادة المصلح متجهة إلى إصلاح أقوال الناس، وأعمالهم وتصرفاتهم وأحوالهم بحيث تكون صالحة في نفسها مُصلحة لغيرها، كما قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ)؛ فقوله: (إِنْ أُرِيدُ)= تجريد الإرادة من القوادح والحظوظ، وإصلاحها بالإخلاص.
وقوله: (إِلَّا الْإِصْلَاحَ)= قصر الإرادة على طلب الإصلاح الشامل الكامل؛ لأن الاسم في الإطلاق والإثبات يحمل على الكامل منه.
وقوله: (مَا اسْتَطَعْتُ)= تقييد الإصلاح بالاستطاعة.
4- إصلاح الكلمة بالصدق:
وهو إصلاح اللسان والخطاب والكلمة والمنطق؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث معاذ -رضي الله عنه- الذي رواه الترمذي وغيره -بإسناد صحيح-: (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
5- إصلاح العمل والطاعة بالاتباع:
وهو إصلاح الأعمال والطاعات بالموافقة للكتاب والسنة وتطهيرها من الشرك والبدعة؛ كما قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170))؛ وقال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)؛ أي: آمن إيماناً شرعيّاً.
وقال -تعالى-: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ).
إصلاح المعاملة بالعدل
6 - إصلاح المعاملة بالعدل والإحسان:
هذا النوع من الإصلاح من الدقة بمكان بحيث تجري تصرفات الإنسان مع غيره على منوال الشريعة وأحكامها ومقاصدها فيتديَّن العبد في معاملة الخلق بالصبر والسماحة والعدل والإحسان والآداب والأخلاق، كما قال -تعالى-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)؛ فأمرهم الله -تعالى- أولاً بإصلاح الفكر بالاعتقاد السليم والتوحيد الصحيح، ثم بإصلاح المعاملة؛ ليكون الإصلاح في المعاملة مبنيّاً على الإصلاح في الفكر.
7- إصلاح الصحبة بالتقوى:
وهذا ظاهر في قوله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
8- إصلاح الأسرة بالتربية:
كما قال -تعالى-: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وقال -تعالى-: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)، وقال -تعالى-: (وَاْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).
9- إصلاح الدعوة بالحكمة:
كما قال -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وقال -تعالى-: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..).
10- إصلاح الإدارة بالتعاون والإتقان:
كما قال -تعالى-: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) َقالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً).
11- إصلاح القدوة بالمناصحة والمشاورة:
كما قال -تعالى- على لسان موسى -عليه السلام-: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)، وقال -تعالى- على لسان ملكة سبأ-: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)، وقال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).
12- إصلاح الولاية بالقوة والأمانة:
كما قال -تعالى-: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قال إنكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)).
وقال -تعالى-: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
13- إصلاح السّياسة بالشّرع والعدل:
كما قال -تعالى-: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وقال -تعالى-: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً).
14- إصلاح الدولة بالأمن والاستقرار:
كما قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، وقال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وقال -تعالى- على لسان ملكة سبأ-: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)).
15- إصلاح الأمة بالوحي والرسالة:
كما قال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وقال -تعالى-: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
16- إصلاح “الحضارة” بالعلم والأخلاق:
تطلق (الحضارة) على الإقامة في الحضر، ثم شاع استخدامها في العصر الحديث في الدلالة على مظاهر الرقي العلمي والأدبي والاجتماعي، أو للتعبير عن المدنية واتساع العمران؛ وإصلاحها يكون بالعلم والأخلاق؛ كما قال -تعالى-: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13))، وقال -تعالى-: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)).
المقومات والعناصر
وهذه المقومات والعناصر -من: المراقبة، وحسن الاعتقاد، والإخلاص، والصدق، والاتباع، والعدل والإحسان، والتقوى، والتربية، والحكمة، والتعاون والاتقان، والمناصحة والمشاورة، والقوة والأمانة، والشرع والعدل، والأمن والاستقرار، والوحي والرسالة، والعلم والأخلاق -كلها-: ترجع -في الحقيقة- إلى أصلين عظيمين وهما:
- العدل والعلم.
كما قال -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
وهاهنا ثلاث حقائق مهمة للوصول إلى الإصلاح الشّرعي الشّامل المتدرّج، وهي:
الأولى: أن البدء في كل مرحلة من مراحل الإصلاح وفي كل منطلق من منطلقاته ينبغي أن يكون بالأسهل؛ كما قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب “الفوائد” “ص175”:
«ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء: أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه”.
الثانية: أن المتقدم من المنطلقات هو مفتاح المتأخر، والمرحلة التالية من الإصلاح هي ثمرة المرحلة السابقة، فإذا بدأ الإنسان -على أساسٍ صحيحٍ- بإصلاح التفكير أصلح الله له الأعمال، وإذا باشر بإصلاح العمل أصلح الله له الدعوة، وإذا أصلح الدعوة أصلح الله له السياسة.
وهذا ظاهر في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
فالآية دلت على أن إصلاح الأعمال جزاء على إصلاح القول، فالثاني هو ثمرة الأول وأثرٌ من آثاره.
فعلى أهل الإصلاح أن يدركوا حقيقةً مهمةً وهي أن الإصلاح السياسي في جميع صوره وأشكاله ما هو إلا ثمرة الإصلاح الشامل في ميدان الدعوة والإدارة.
الحقيقة الثالثة: أن أهل الإصلاح المتدرّج الشامل في كل عصر هم غرباء:
- غربة الحال والمعرفة والمنهاج.
وقد تنشأ غربتهم من تمسكهم بدينهم وقيامهم به، أو من قلة عددهم وازدياد عدد مخالفيهم، أو من علو همتهم في حمل الحق مقارنةً بغيرهم، أو من اختصاصهم بفهم العلم والدين والإيمان، أو من تفردهم بإحياء السنن وتعليم الأحكام، أو من اشتغالهم بإصلاح أنفسهم وإصلاح ما أفسده الناس، وقد تنشأ غربتهم من ذلك -كله-؛ فهم البقية الباقية من أتباع الرسل من الذين ذكرهم الله -تعالى- في كتابه: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ).
ويشهد لهذا المعنى: الحديث الذي رواه الطبراني بإسناد صحيح -وأصله في “صحيح مسلم”- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “طوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”.
والهدف المنشود لهؤلاء الغرباء الأنقياء الأتقياء هو: الوصول إلى النتائج الباهرة، بحيث تكون:
الخاطرة سليمة. والفكرة صحيحة. والإرادة نقية. والكلمة سديدة. والعبادة مستقيمة. والمعاملة نافعة. والصحبة صادقة. والأسرة متماسكة. والدعوة ظاهرة. والإدارة ناجحة. والقدوة صالحة. والولاية أمينة. والسياسة عادلة. والدولة آمنة. والأمة جامعة. والحضارة قائمة...
....ليكون التناسب بين المنطلقات والمقومات، وبين النتائج والمقدمات: بالمبنى والمعنى، وبالمنهاج والطريقة.