كتب - حسن اليملاحي:القصة القصيرة من الفنون السردية التي شهدت انتشاراً واسعاً في مجال الكتابة المغربية والعربية. ويعود هذا الأمر إلى جملة من الأسباب الفنية والموضوعية التي تكمن من وراء هذا الانتشار، نذكر من أهمها: سخاء القصة جراء الإمكانات النصية التي تتيحها أمام كتابها. قدرتها على تحقيق المتعة بشكل مختلف لدى القارئ، ومدى ترجمتها لجوانب مهمة من انشغالاته إلى جانب أسئلة الحياة والمجتمع. سحر وجمالية وهندسة هذا الجنس الأدبي الرافض للوصايا.«غرف الانتظار”، عنوان المجموعة القصصية للقاص المغربي “يوسف الحراق”. تقع المجموعة في 84 صفحة، وتضم 16 قصة قصيرة، وقدم لها المغربي “سعيد الريحاني”. المجموعة صدرت عن “مطبعة النجاح الجديدة” ضمن “منشورات مكتبة سلمى الثقافية” برسم سنة 2012 . في العنوانقبل الوقوف بين يدي العالم القصصي للمجموعة، نرى أنه من الضرورة المنهجية الوقوف بين يدي العنوان أو العتبة، ولا تخفى الأهمية التي يحظى بها العنوان في الدراسات النقدية الغربية لدرجة أن اعتبره الناقد الفرنسي “رولان بارت” من العتبات التي تثير شهية القراءة. كما من شأنه أيضاً -أي العنوان- أن ييسر سبل الفهم والولوج إلى المناطق البعيدة للنص.إن قراءتنا للعنوان تقوم على توظيف قراءتنا الأولية للمجموعة، بحيث لم نقرأ العنوان بمعزل عن المتن الذي يفضي إليه، بل سنحاول الوقوف على امتدادات هذا العنوان في باقي سرديات القصص المكونة للمجموعة، اعتباراً لكون العتبة تشكل امتداداً سردياً داخل النص، كما يمكنها أن تخلق أفقاً للانتظار.لعل أول سؤال يتبادر إلى ذهن قارئ هذا المتن هو: ما دلالة هذا العنوان؟. أولاً دلالة العنوان: يلاحظ القارئ أن العنوان يتكون من كلمتين دالتين تتطلب القراءة للوقوف عند دلالاتهما السردية وهما: غرف ــ الانتظار. سنقف عند دلالة كل كلمة على حدة. وننتقل بعد ذلك إلى دلالة العنوان ككل. غرف: جمع غرفة وهي فضاء خصوصي ومستودع لأسرار وحميمة الإنسان، ثم الانتظار: من فعل انتظر، والانتظار سلوك وتعاقد نفسي يصدر من الإنسان لغاية ما.فما العلاقة إذن بين الغرف والانتظار؟ وماذا عن الدلالة؟ إذا ما حاولنا تركيب هذين المعنيين فإننا سنجد أنفسنا أمام الدلالة العامة للعنوان القائمة على أن غرف يراد بها دلالياً قصص المجموعة، أما الانتظار فيقصد به الاستجابة، أي استجابة القارئ للمجموعة ولرهاناتها الجمالية والفنية والموضوعاتية، وكذا استجابة النص لأفق التلقي العام. وإذا كانت هذه الأفعال تدخل في إطار مجال “الوعي الجمالي” الذي يحيل على الإدراك، والحس النقدي الذي يرتهن إليه مصير الإبداع، فإنه بالمقابل يمكننا أن نتحدث عن استجابات أخرى يضيق المجال لذكرها. مصدر العنوانيلاحظ القارئ أن”يوسف الحراق”- وعلى عادة بعض الكتاب الذين يتحرون الدقة في اختيارعناوين لمتونهم السردية- اقتطف عنواناً عتبته من المتن العام، وبالضبط من القصة التي تقع في الصفحة 83 التي تحمل العنوان نفسه. نقرأ في الصفحة نفسها “أسمع اسمي- رقمي...أدخل على الرجل الذي تفضي إلى غرفته غرفة الانتظار...”. استناداً إلى هذا، يلاحظ القارئ أن الانتظار ظل يحضر بقوة في كل النصوص القصصية ويغطيها في كل مواضيعها الجزئية والكلية. ويمكن أن نمثل لبعضها بحسب الاعتماد التالي: الكل ينتظر، ص:21 / انتظرت، ص:29 / ، الكل ينتظرك، ص:35 / لم أنتظر، الكل هنا ينتظر، ص:39 ... وغني عن البيان أن الانتظار هنا ورغم سياقاته الخاصة التي قد تميزه عما سواه، فإنه غالباً ما يحيل نظرياً إلى سلوك نفسي نادر يضمر جملة من المواقف اتجاه ما يحدث للذات المنتظرة في سياق تفاعلاتها مع العالم الداخلي والخارجي. يقول الكاتب في الصفحة9 على لسان “باولو كويلو:« الانتظار مؤلم والنسيان مؤلم أيضاً، لكن معرفة أيهما تفعل هو أسوأ المعاناة”.في المتن الحكائيقبل تناول المتن الحكائي من حيث المقاربة سنسمح لأنفسنا بطرح السؤال التالي: هل يمكننا الحديث عن قصة من دون إطار؟ كما هو معلوم، الموضوع من العناصر الفنية الأساسية للقصة القصيرة، ويسميه النقاد بالإطار العام للقصة. فمجموعة “غرف الانتظار” يجدها القارئ تنبئ من حيث الإطار عن ما يلي: الصداقة/القيم الوطنية/الهامش/ لعبة العمى /الإيمان/الحلم/الانتماء/التأمل/القيم البيئية/لعب الطفولة/الصديق والصداقة/ الكتابة/الهوية المتنقلة... إلى غيرها من باقي الموضوعات الأخرى الفرعية التي يطرحها المقام.ارتداء العمىيلاحظ القارئ في قصة “المسجد” بالصفحة /43، أن السارد بعد انتهائه من الصلاة بالمسجد، وعند انتظاره خلو المسجد من المصلين بغية الخروج، سيستوقفه مشهد رجل أعمى يرجو النوال، فبعد مده ببضعة دريهمات، يجد السارد نفسه أمام سؤال عصي ومستفز تصعب الإجابة عنه: هل يفهم العميان الألوان...هل يحسون بتضاريس المدينة؟ أمام مظاهر هذه الحيرة، يلجأ السارد إلى لعبة التجريب، تجريب ارتداء العمى لمقاسمة العميان عوالمهم المريرة، وكذا إحساسهم الفريد، ومشاطرتهم لعبة الألوان. لقد صاغ الكاتب هذه القصة وفق صوغ فني يتغيا لفت انتباه القارئ إلى فئة مجتمعية قريبة/ بعيدة، لنقل جانب من تفاصيل اليومي، كما تعيشه بالأبيض والأسود من غير”رتوشات”. والحقيقة أن هذه القصة تمثل دعوة صريحة لتصحيح بعض الاختلالات، من حيث نظرة المجتمع إلى هذه الفئة نظرة تحتاج إلى ترميم، في الوقت الذي يبرهن فيه الأعمى على اندماجه في المجتمع ويبين قدراته على الإسهام في كل أوراش الحياة . نقرأ في القصة “الأعمى ارتد بصيراً يحتسي الشاي/ ويدخن السيجارة ويقرأ الجريدة..../يتلمس الجريدة بسبابته، يحتسي الشاي ويدخن...”زمن الأخطاءأما في قصة “القطار” بالصفحة /37، فيطالعنا السارد عن ما يولده “الانتظار” من قلق وتوجس لدى البعض، بينما يلجأ البعض الآخر إلى التخفيف من حدته عبر الانشغال بالبحث والتأمل وإعادة اكتشاف ما يحدث في العالم الخارجي. “لم أنتظر”، الكل هنا ينتظر، ص:39. وانطلاقاً من هذا الموقف، يلتقط السارد بعين راصدة، الألوان والأشكال والفراغات والأصوات وأنواع الحقائب التي تتوزع فضاء المحطة والقطار في رحلته إلى طنجة. إن الأمر-هنا- يتعلق بصور ومشاهد ضاجة بالحياة استلهمها الحراق من فضاء محطة حاضنة لعلامات التعجب وقطار يصدر الخوف. إن هذا الخوف بزئبقيته يرحل مع السارد ويعيشه ويقاسمه العربة ومقصورة القطار، “فاجأني زعيق القطار في هرولته نحو طنجة التي أضحت تخيفني.”،ص:40. إن قصة “القطار” لا تبحث في “الانتظار” فحسب، ولكنها تتعدى ذلك إلى مستوى استعادة “محمد شكري”، الكاتب المغربي الذي حقق انعطافة نوعية في مسارات السرد المغربي. وكذا، الكاتب الكوني “بول بولز” الذي اكتوى بنار حب “طنجة”. ولما كان الزمن يرمز إلى زمن الأخطاء بامتياز كما ضمن شكري سيرته، فإن تواضع يوسف الحراق الذي يتخفى من وراء السارد، دفعه إلى البوح علانية بكونه يسعى إلى تطهير نفسه من الأخطاء بفعل القراءة. ولعل توظيف كتاب شكري “زمن الأخطاء” على نحو عارض يزيد من صدقية هذه الدعوة التي تتجاوز الذات الساردة لتشمل باقي الذوات الأخرى وجميع من لايقرأ، أو بالأحرى من يدعي القراءة، في الوقت الذي أصبح فيه بعض أدعياء القراءة يصدرون خطاياهم في جميع الاتجاهات.تثاقففي قصة “ماسح الأحذية” بالصفحة /23، يطالعنا السارد بفصول قصة “با العربي”، الماسح العارف بعوالم الهامش وغيره من باقي الفضاءات الأخرى. إن مهنة مسح الأحذية تفرض من حيث المبدأ الالتقاء بأنواع وأجناس من البشر، وربما مثل هذه اللقاءات وما يتخللها من تثاقف هي التي وسعت من مداركه وجعلته يدخل مع الزبائن في سجالات.إن السارد في هذه القصة يقف ضد “الانتظار” حينما يناوش با “العربي”، “انتظار” تلميع الحذاء. ولعل الأهم في القصة هو تلك الإشارات والدلالات التي تطلقها. فمن حيث الجانب الاجتماعي تثير اهتمام القارئ إلى هذه الفئة المنسية التي تقتات من أحذية الآخرين، والتحسيس بمعاناتها الاجتماعية.وإذا كان السارد قد لجأ في قصة “المسجد” بالصفحة /43 إلى لعبة التجريب، تجريب ارتداء العمى لمقاسمة العميان عوالمهم المريرة، وكذا إحساساتهم الفريدة، ومشاطرتهم لعبة الألوان، فإنه في هذه القصة قد سلك المسلك نفسه لمعرفة وولوج عالم با “العربي”، عن قرب. لكن الزبون الذي كان “ينتظر”، دفع ماسح الأحذية إلى إبعاد السارد. وأمام رغبته الملحة، سيخال نفسه -أي السارد- يلمع حذاءه بعد أن نصب نفسه من المنتمين إلى العالم السفلي.إن قراءتنا وتدقيقنا النظر في هذه الموضوعات، كما تطرحها نصوص “يوسف الحراق”، دفعتنا إلى تسجيل الاستنتاجات التالية: اعتماد “سمة الانتظار” سردياً في بناء الموضوعات وصوغ الصور الموازية لها. اكتساب “الانتظار” لصفة التحول الذي يعيد تشكيل المنظورات واللغة والأحداث ويكسبهما دلالات مليئة بالإحالات النفسية والاجتماعية.. التأكيد أن “الانتظار” سلطة ملزمة وقهرية وسالبة للحرية. وعموماً، إن مجموعة “غرف الانتظار” لــ« يوسف الحراق” من المجاميع القصصية الناضجة والواعدة التي لا تستوجب الانتظار من حيث القراءة. إنها سرديا تقارب “الانتظار” وتخوض فيه بلغة بسيطة وشعرية أحياناً، فهي في متناول المتلقي وتسهل عليه التقاط بعض الرسائل التي تمررها سرديتها. ^ قاص وناقد ومترجم مغربي
970x90
970x90