كتب – جعفر الديري: لم يعد شأن شباب اليوم، شأن شباب الأمس. انهم أقل تمسكاً بالعادات والتقاليد، لكنهم أيضاً أكثر اطلاعاً ومعرفة، بفضل توافر وسائل اتصال جديدة، أتاحت لهم العيش في ظل عالم لا تحده شطآن. إن هذا الجيل الجديد من الشباب؛ يتطلب معرفة جيدة بهم، يسهل معها التعامل، فهم ليسو كآبائهم يسمعون ولا يخالفون كلمة أو أمراً يصدر اليهم، بل يناقشون ويعترضون. وهنا تبرز خطورة المسألة، فإن عدم معرفة الأب بطبيعة ابنه، والطريقة المناسبة للتعامل معه؛ يمكن أن تؤدي به إلى خسرانه. هذا في أفضل الحالات عندما يكون الابن الشاب، مهذباً و سلوكه قويم؛ فكيف لو ظهر الابن عنيداً ومتوحشاً متمرداً، وذو طبع سيء؟ لا شك أن المسألة هنا ستكون أكثر صعوبة، تتطلب من الأب أسلوباً يحقق له ما يتمنى من ابنه، وفي الوقت نفسه لا يثقل ظهره، بل يجعله يتقبل وصاية أبيه برحابة صدر. في تحقيقنا الآتي.. يعبّر مجموعة من الشباب والشابات عن رفضهم أساليب آبائهم في التعامل معهم، مؤكدين أن من شأن هذه الأساليب؛ أن تقطع أواصر التعاون بينهم وبين آبائهم. كما إنها قد تقود إلى علاقة هشّة، ليس لها سوى الاسم، دون أبوة وبنوة حقيقية... لسنا عبيداً لكم فاطمة علي (22 ربيعاً)، حاول أبوها تزويجها من ابن عمها؛ لكنها رفضت بشدة، وتمكنت من فرض رأيها. تقول علي: أحب أبي وأمي، ولا أقبل لأي كان أن يهينهم أو يخطئ بحقهم، لكنني لا أقبل أن يتحكما بي كما يشاءان. فأنا فتاة لي كياني المستقل وحياتي، ولا أقبل من أي إنسان التعرض لها. وتضيف: أنا أقول ذلك بعد تجربة مررت بها، زادتني إصراراً على موقفي، واعتزازاً بنفسي. لقد فوجئت إثر عودتي من الجامعة بأمي تخبرني أن ابن عمي تقدم لخطبتي وأن أبي وافق. ثرت ثورة لم تتوقعها وخافت من ردة فعل أبي، وكانت بالفعل ردة فعله غاضبة جداً. لم أنطق بكلمة واحدة في حقه، لزمت الصمت، رافضة الزواج من ابن عمي، ليس لأنه سيء لا سمح الله، بل لأنه لا يناسبني تماماً، فهو يختلف عني في كل شيء. وتتابع علي: المدهش أن أبي فرض علي الزواج من بن عمي، وكأنني في مسلسل تلفزيوني، أو أعيش في زمن قديم، كانت فيه النساء جوار للرجال، وليس في زمن أثبتنا فيه وجودنا وأصبحنا أرجل من الرجال حتى. لقد وعي والدي أن ابنته لم تعد صغيرة، وأنها فتاة لها كيانها ولا يحق له فرض رأيه عليها، أنا الفتاة المتعلمة التي لم تعد كما كانت صغيرة لا حول لها ولا قوة، بل فتاة تعرف تماماً ماذا تريد. وتواصل: كان إصراري أمراً مدهشاً بالنسبة لعمي، لكنه كان أكثر تفهماً من أبي، فبعد أن جلس معي واستمع لوجهة نظري، صرف النظر عن زواج ابنه بي، كما أقنع أبي بأن جيل اليوم ليس كالأمس، وأن الشابات يستطعن اختيار الأفضل. ثم ضاعت فرصة الدراسة محمود محسن، شاب في العشرينيات، يعرب عن أسفه لضياع حلم الدراسة التي يتمنى، مبدياً دهشته من قسوة أبيه التي حرمته من تخصص كان يتمنى طوال عمره الإبداع فيه. يقول محسن: يتبادر إلى ذهني هذا السؤال باستمرار؛ لماذا يقسوا علينا آباؤنا؟ لماذا لا يمنحونا الفرصة للحياة كما نهوى؟! هل يعجبهم أن “نشرد” عنهم، فلا يجمعنا وإياهم سوى عاطفة الأبوة، دون احترام أو تقدير؟! إنني أقول هذا الكلام آسفاً، لكنها الحقيقة؛ فأبي رحمه الله تسبب بضياع مستقبلي. لقد أرغمني على دراسة لا أحبها، فكانت القشة التي قصمت ظهري. لقد حاولت أن أبيّن لأبي أن هذا التخصص لا يناسبني، وأني لن أنجح فيه، فهو يختلف عن طموحي تماماً، إلا أنه رحمه الله أصر على رأيه، فكانت النتيجة أني فشلت في دراستي، كما إنني لم أدرس ما أحب. أبي يسخر مني أما ياسين أحمد (20 عاماً) فيشكو النظرة الدونية التي يحملها أبوه تجاهه، متسائلاً عن سببها، وهو الذي لم يخالف أباه يوماً، فكان لا يرد له أمراً. يقول أحمد: أتذكر أنني طوال عمري، لم أرد على أبي يوماً، بل كنت أطيعه في كل شيء. حتى عندما كان زملائي في الثانوية يسخرون مني، كنت أقف في وجههم، وأؤكد لهم أن أبي يستحق مني ذلك فهو أبي، وحتى لو تسبب لي بالإحراج أمامهم، يظل الأب الذي يخاف علي وعلى مستقبلي. ويواصل: ما يحز في نفسي، أنني ورغم ما أبذله من طاعة لأبي؛ إلا أنه نادراً ما أثنى على وعلى نجاحي. أنا لا أسمع منه سوى اللوم والتعنيف، وأحياناً السخرية بي. وأتذكر أنه كان لا يقر له قرار عندما لا أحقق النتائج النهائية في أي امتحان. ويظل يردد أمامي أن فلاناً حقق ذلك وهو شاطر وأنت فاشل. حتى اليوم وقد انتظمت طالباً مجتهداً في الجامعة؛ لا يزال أبي ينظر إلي نظرة دونية. حلمي أن أصبح تاجراً ولا تختلف شكوى شاكر سلمان (27 عاماً) عن شكوى سابقه، إذ كان يحلم بمساعدة أباه له في افتتاح مشروع تجاري، لكنه رفض رغم بساطة المبلغ المطلوب. يقول سلمان: عندما تخرجت من الثانوية ، لم أتمكن من الانضمام إلى الجامعة، لكن ذلك لم يؤثر علي. فقد كان لدي مشروع درسته بشكل جيد. وكان كل ما أحتاجه بعض المال. ولأن أبي بخير والحمد لله، توقعت منه مساعدتي. لكنه رفض ذلك دون تبرير. وظل يلومني على تفكيري هذا، ويطالبني بتفكير أفضل، وبترك مثل هذه المشاريع الطفولية. كانت صدمتني كبيرة جداً، حاولت الاستعانة بأمي لإقناعه، لكنها لم تفلح في ذلك. ويردف: كنت مستاءً جداً، فأبي نفسه بدأ من الصفر، ونجح في ذلك، فلماذا يقف ضد مشروعي وهو يعلم مدى تمسكي به؟! لقد تأثرت كثيراً وساءت علاقتي به، لأنني لم أتخل عن مشروعي، بل اقترضت مبلغاً، واستدنت من آخرين، حتى فتحت مشروعي رغم غضب أبي. واليوم أنا مسرور بما فعلت؛ فقد نجح مشروعي، وهذا النجاح دفع أبي لتصحيح الخطأ الذي وقع به معي؛ فهو الآن دائم التشجيع لي. قسوة مبررّة التجارب السابقة عرضناها على عينة من الآباء والأمهات، تباينت آرائهم بشأنها؛ فالبعض رآى أن استبداد الآباء أمر مرفوض تماماً، فيما آخرون التمسوا العذر للأبوين. تعلّق السيدة مريم أحمد بالقول: يجب على الأبناء أولاً أن يعترفوا بحقيقة أن آبائهم هم الأقرب إليهم حتى من أنفسهم؛ وانهم لن يجدوا صدراً رحيماً لهم كما قلوب آبائهم. وإذا أرادوا أن يعوا ذلك جيداً؛ فليس عليهم سوى سؤال الأيتام الذين فقدوا الآباء والأمهات؛ لكي يعلموا ماذا يشكّل الأبوين بالنسبة لهم. وتضيف: إن قسوة الآباء على الأبناء؛ ليست مدعاة لرفضهم، واتهامهم بالاستبداد، إذ أن لهذه القسوة ما يبررها. تأمل ما يحدث خارج البيت، وستكتشف كم هي صعبة الحياة؛ أصحاب شهادات عليا لا يجدون وظائف محترمة، فكيف بمن يتخرج من الثانوية العامة دون معدل يخوّله دخول الجامعة؟! نحن نعيش واقعاً صعباً، وإذا لم يقم الآباء بواجبهم في توجيه الأبناء ولو بالقسوة؛ فمن سيوجههم؟! ثم كيف للأبناء أن يتعاموا عن حقيقة أن الاهتمام بالشخص دليل محبته والاهتمام بشأنه؟! لن يجد الأبناء من يرعى شؤونهم مثلهم . الآباء مطالبون بالاعتراف من جهته، يرى رب الأسرة أسامة عباس؛ أن الظروف التي يعيشها شباب اليوم، تفرض على الجميع عذرهم في نظرتهم تجاه بعض سلوكياتالآباء، مشيراً إلى ذكائهم واعتزازهم بأنفسهم، نظير ما يتميزون به من ثقافة ووعي، ومعرفة لا تقف عند حد. يقول عباس: نجد ذكاء الشباب يتجسد في أمور كثيرة؛ في زيادة أعداد المتفوقين سنوياً، في معرفتهم بالتكنولوجيا ووسائل الاتصال، في افتتاحهم مشاريع إلكترونية كثيرة، في عملهم صباحاً ودراستهم مساءً، في تفاعلهم الواضح مع كل حدث في البلاد. إن جميع هذه الأمور؛ تدل على أنّ جيل اليوم يختلف عن جيلنا، ومن الطبيعي أن يشعر الشباب بتوافر كل هذه المزايا لديهم؛ بحساسية تجاه سطوة الآباء، كما هو شأن الشاب الذي يرغب بافتتاح مشروع تجاري مدروس بشكل جيد، لكن أبوه يقف بوجهه. ويضيف : لن أتعصب للآباء في هذه المسألة؛ بل سأكون إلى جانب الأبناء، وأطالب الآباء بتفهم أبنائهم وأنهم ولدوا في زمن غير زمنهم، وأن أسلوب فرض الرأي لم يعد ينفع مع شباب منفتحين على كل ما يجري في العالم، متطلعين إلى عالم يأتي كل يوم بالجديد المدهش، وليس كما كان عالمنا المتواضع.