انتهت القمة التشاورية الأخيرة لمجلس التعاون الخليجي، التي عقدت في الرياض في الرابع عشر من الشهر الحالي، وخالفت التوقعات المتفائلة لمعظم السياسيين المتابعين للشأن الخليجي، وخاصة ما يتصل بمواجهة المشروعات الإيرانية في منطقة الخليج العربي، وذهب أولئك المراقبون إلى ترجيح خروج القمة، بإعلان شكل من أشكال الاتحاد بين دول المجلس، استناداً إلى دعوة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي أطلقها في آخر قمة للمجلس في العام 2011، ودعا فيها إلى الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد للدول الست. وبدلاً من إعلان قيام الاتحاد، أو في الأقل إعلان قيام اتحاد ثنائي بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، والتي ارتفع سقف التوقعات بشأنها إلى ذروة الأمل، بدلاً من ذلك أعلنت الدعوة إلى عقد قمة طارئة جديدة للدول الخليجية في الرياض، لمناقشة هذا الملف الخطر والحيوي لأمن المنطقة والعالم، والذي لا يرتبط بمستقبل دول مجلس التعاون الخليجي ومنطقة الخليج العربي فقط، وإنما يحدد مصيرها لخمسين عاماً مقبلاً في الأقل، لا سيما مع تعاظم الخطر الإيراني الذي أصبح رقماً يحمل صلف الثرثرة الاستفزازية، في معادلة القلق الإقليمية، هذا التحول كله حصل بعد احتلال العراق وبتواطؤ إيراني أمريكي، وكشف ذلك عبدالحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق في جانب من مذكراته، والتي أشار إليها الصحافي جهاد الزين في صحيفة (النهار) اللبنانية في عددها ليوم 12 مايو 2012، وأشار فيها إلى أن آخر مؤتمر لما يسمى بالمعارضة العراقية التي تحكم الآن، والذي انعقد في لندن قبيل أشهر من بدء الغزو الأمريكي البريطاني للعراق في العام 2003، تم برعاية أمريكية إيرانية وحضره من الجانبين أعضاء في وكالة المخابرات المركزية والاستخبارات الإيرانية، وأن الوفدين هما من أشرف على نجاح المؤتمر. الرقم المهمل أصبح فاعلاً تحولت إيران في أخطر نتيجة من تداعيات احتلال العراق، من رقم مهمل على الخطوط الخلفية لمسرح أحداث الشرق الأوسط والخليج العربي، إلى رقم فاعل في المعادلة الاستراتيجية للمنطقة، تتجنب دول الإقليم التقرب من حصونها خشية من مخالبها، وخاصة مع عدم وجود قوة الردع التي تعيدها إلى داخل حدودها الدولية، ولولا التناغم الخفي بين المشروعين الرئيسين اللذين يراد لهما التحكم بأوضاع المنطقة، وهما المشروع الصهيوني التوسعي والمشروع الفارسي التوسعي، ما كان للغّة مرتفعة الصوت التي تتردد أصداؤها في طهران، أن تثير هذه الهواجس والمخاوف كلها في المنطقة. لم تأت أجواء التفاؤل بشأن القمة التشاورية لدول مجلس التعاون الخليجي من فراغ، فالدعوة إلى الاتحاد خرجت من رحم المجلس نفسه، ومن أكبر دولة فيه، وهي المملكة العربية السعودية، والتي في حال قيام الاتحاد، ستتعاظم مسؤولياتها وواجباتها داخل المجلس، ويمكن أن تتحمل أعباء اقتصادية ومالية وسياسية وأمنية كبيرة، تضاف إلى ما تتحمله حالياً في مواجهة التغلغل الفارسي في منطقة الجزيرة العربية والخليج العربي وعلى مستوى الوطن العربي والعالم الإسلامي، بعد خروج العراق من معادلة التوازن الإقليمي، وانكفاء مصر منذ بداية الثورة المستمرة فيها وإلى أن تستقر أوضاعها، وانشغال باكستان بأزماتها الداخلية وتوترات علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية. من راهن على إمكانية التوصل إلى اتفاق بين دول المجلس وضع في حسابه أن القوى الدولية الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعارض حتى الآن (بصفة علنية على الأقل)، قيام أي شكل من أشكال الاتحاد لدول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة أن دوله من دون استثناء تحتفظ بعلاقات قوية مع الدول الكبرى كلها، ولا يمكن افتراض حصول التصادم لا الآن ولا في الأفق المنظور بينها، ثم أن مركز الكتلة الجديدة التي ينتظر ميلادها، تقع في منطقة باتت مركز استقطاب وتقاطعات لمصالح متضاربة تخص قوى إقليمية ودولية أخرى، مما قد يضطر الإدارة الأمريكية للذهاب في خياراتها الاستراتيجية، إلى أكثر من مجرد التواجد الثابت أو المتحرك لأسطولها الحربي البحري في منطقة الخليج العربي والبحر العربي والمحيط الهندي، بل قد تضطر لوضع الخطط اللازمة لحماية مصالحها في انتظام خطوط مواصلات الطاقة، فالاتحاد الجديد الذي يخدم أمن دول مجلس التعاون بالدرجة الأولى، سيؤمن مصالح المجتمع الدولي في الحصول الطاقة الزهيدة، وهذا الاتحاد يضم في صفوفه دولاً صديقة بدرجات متفاوتة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، مما يمنع التحفظات القائمة على أساس المخاوف من نوايا هذا المشروع على المديين المتوسط والبعيد، وفي حال نشوئه فإنه قادر على النهوض بدور إقليمي محوري بتنسيق عال مع مؤسسة الجامعة العربية، لمواجهة الأخطار المتنامية لإيران، والتي تسعى إلى ربط دول المنطقة بمشروع ولاية الفقيه، لتنطلق منها ولتتحكم فيما بعد بالقرارات الاستراتيجية في سوق الطاقة في العالم والممرات البحرية الدولية. أمريكا والاتحاد الخليجي ولكن هذا لا يمنع من طرح سؤال جدي وملح إزاء المشهد السائد والساخن: هل الولايات المتحدة الأمريكية تشعر بارتياح حقيقي إذا ما نشأ اتحاد خليجي بدلاً من مجلس التعاون؟ أم أنها ستقاوم هذه الفكرة عبر أدوات محلية؟ سواء بالضغط على بعض الدول الأعضاء في المجلس، أو بالصمت المريب تجاه التصعيد الإيراني الأخير، والذي خرج عن حدوده الأخلاقية والقانونية، ولم يلق رداً ولو من باب رفع الحرج من البيت الأبيض أو الخارجية الأمريكية، وإما بفتح ملفات نائمة، أو تفعيل ملفات قائمة مثل ملف القاعدة، أو بالتركيز على الاحتجاجات التي تتجاهل واشنطن أنها مجرد أذرع إيرانية لإثارة القلق في بعض دول الخليج العربي، تشغل فيها دول المجلس عن التفكير أو النظر إلى أبعد من البحث عن حلول لها قبل التطلع إلى مشاريع استراتيجية. ربما لا تريد واشنطن إطلاق رأي صريح عن موضوع على هذه الدرجة من الحساسية والأهمية وهذا من حقها، ولكن بالمقابل فمن حق أصدقائها عليها أن يشعروا بشيء من روح التضامن السياسي في الأقل، كرد على تصريحات إيرانية بصلف عن عائدية البحرين لها، وأن طهران لا يمكن أن تسمح بقيام الاتحاد بين البلدين، أم أن التضامن الأمريكي مع أي طرف عربي لن يتحقق إلا إذا كان موجهاً ضد بلد عربي آخر، كما حصل ضد العراق عام 1990 وما بعده حتى يتم سحق القوة المادية العربية من أن تتحول إلى مشروع نهضوي، ولذلك يفترض المشككون بجدية التضامن الأمريكي مع دول الخليج العربي إلى أنه لن يتحول إلى فعل ميداني، ولن يجد طريقه إلى التطبيق إذا ظهر على شاشة الرادار الأمريكية اسم إسرائيل أو إيران. لهذا من المرجح أن يبقى الصمت الأمريكي المغلف بالعبارات الغامضة سيد الموقف، ولكن السياسة الأمريكية وبصرف النظر عن درجة اقتراب النظام الرسمي العربي منها، أو ابتعاده عنها، ستظل تقاوم التجارب الوحدوية في الوطن العربي بصفة خاصة، لحسابات إستراتيجية ترتبط بنظرية الأمن القومي الأمريكي وتكامله مع الأمن الإسرائيلي، والذي ينظر إليه على أنه حقيقة إستراتيجية واحدة، فالولايات المتحدة تنظر إلى التكتلات السياسية والاقتصادية الكبيرة، على أنها قدرة مستقبلية حينما تستند إلى قوى سياسية واقتصادية وبشرية، تستطيع مواجهة الضغوط الخارجية للتأثير في قراراتها السيادية، وخاصة من جانب القوى الدولية الكبرى أو البنك الدولي وصندوق الدولي ومنظمة التجارة العالمية، مما يعني فقدان واشنطن جانباً من أدوات التأثير في القرار الخليجي سياسياً واقتصادياً وخاصة في مجال الطاقة. حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على خط سياسي ثابت، بمنع نشوء تكتلات قابلة للحياة والتطور ومواجهة العواصف والأعاصير السياسية في معظم أرجاء المعمورة، بل إنها شجعت تجزئة الدول من أجل إحكام السيطرة عليها، فواشنطن تريد الانفراد برسم المسارات السياسية والاقتصادية لمختلف الدول الصغيرة، ليس على أساس ما تمليه المصالح الوطنية لتلك الدول، وإنما على وفق ما يضمن مصالح التكتلات الاقتصادية الخارجية، ولعل الموقف الأمريكي الرافض لوحدة ألمانيا بعد انهيار جدار برلين، ما يمكن اعتماده درساً لقادة الدول التي تتطلع إلى دور إقليمي ودولي كبيرين، فأمريكا التي كانت حصيلة اتحاد ولايات متحاربة، تعي جيداً دور الوحدة في بناء قوة الدول عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ولأن أمريكا أخذت تفقد بعضاً من مكانتها الدولية، نتيجة لبروز مراكز استقطاب جديدة، فإنها تعيش هاجساً من احتمال صعود مراكز إقليمية جديدة، وعودة روسيا إلى الساحة الدولية، وبروز الصين كقوة اقتصادية متفوقة. إن التجارب الوحدوية المستندة إلى عوامل التطابق في اللغة والدين، والتقارب في التقاليد الاجتماعية والمستوى الاقتصادي، والمصالح المشتركة، والتي تأتي عبر إرادة سياسية شعبية ورسمية راسخة، تعد أكثر التجارب قدرة على إثبات صوابها وإيجابياتها واستمرارها، خاصة إذا نجحت في أن تخط لنفسها نهجاً يحافظ على مسافة قريبة من التكتلات الدولية، بناء على حسابات خاصة، وليس من منطلق الحرص على تطمين المصالح الاستراتيجية لأي طرف من الأطراف الدولية، وربما يعد التقارب في هذه الجوانب بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي مثالاً قوياً على إمكانية تحقق تجربة الاتحاد. بين الاتحادين الأوروبي والخليجي ترافق انتهاء قمة الرياض التشاورية التي وضعت أساساً معلناً للاتحاد المنشود، مع نمطين من التصريحات التي لم تتطابق مع مرامي الاتحاد، كهدف قومي راسخ في الوجدان العربي، الأول هو محاولة الاعتذار الخجول من إيران وذلك بإرسال رسائل التطمين لها، بأن مشروع الاتحاد المقترح لم يأت رداً على التحدي الكبير الذي باتت إيران نفسها تمثله على البحرين خاصة وعلى سائر دول الخليج العربي وإنما لمتطلبات خليجية صرفة، لا علاقة لها بالتحريض الإيراني على الحكم الشرعي والوطني في البحرين. ومع ما في هذا النوع من الرسائل، من إغراء للغطرسة الإيرانية في التمادي في طريق الضلالة، وتصعيد سقف شروطها وتدخلاتها في الشأن العربي، فلا بد من القول، إن الأمم التي لا توحد مواقفها وتنسق سياساتها، مع اشتداد المحن والتهديدات الخارجية، وخاصة من قبيل النوايا الإيرانية التي خرجت من بيضتها وأطلت برأس مليء بالنهايات المدببة، هي أمة ليست جديرة بالحياة، وليس هناك أدعى من التهديدات الإيرانية، من دوافع لترصين الموقف العربي الخليجي بوجهها وسد الثغرات على محاور تقدمه، ولم تقم معظم الوحدات بين الدول إلا من أجل مواجهة التهديدات والتحديات الخارجية، أو من أجل تحشيد الجهود والطاقات الاقتصادية والبشرية لتحقيق التنمية على مختلف الأصعدة، ولعل وحدة ألمانيا ووحدة إيطاليا، وكثيراً من التجارب المشابهة، لم تقم إلا رداً على التهديد الخارجي، أو بحثاً عن مسارات جديدة للصعود الاقتصادي. أما النمط الثاني من التصريحات الرسمية التي أعقبت قمة الرياض فركزت على حق دول مجلس التعاون الخليجي لاختيار البرنامج السياسي الذي تسعى إلى تطبيقه، مستهدية بتجربة الاتحاد الأوروبي، ومع ما في هذا الاستدلال من وجاهة، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يمر من دون تحديد الفرق بين التجربتين، فالاتحاد الأوروبي يضم دولاً تنتمي إلى أصول وأعراق وقوميات مختلفة، ودخلت حروباً طويلة استمرت قروناً عدة ، وآخرها حروب البلقان بسبب التنافس على الثروة والنفوذ والتي كانت بالأصل إفرازاً لنتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي يمكن تسجيل المسؤولية في نشوبها على الصراعات بين الدول الأوروبية على الأراضي والمصالح الاقتصادية، وبعد أن خلّفت الحروب الطويلة مآس لم يتم حصر نطاقها في أوروبا فقط، وجدت أوروبا في نهاية المطاف، أن تحكيم لغة الحوار للتوصل إلى قواسم مشتركة من المصالح فيما بينها، وخاصة في مجالات التجارة والصناعة والتعرفة الجمركية، حتى وصلت أخير إلى ضمان حرية التنقل بين الدول الأعضاء من دون قيود، وأخيراً البحث عن كيان سياسي واحد، بعد أن اعتمد اليورو كعملة أوروبية موحدة، على حين أن الجزيرة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي تنتمي إلى أصل واحد وهو الأصل العربي، ولها ديانة واحدة، ومن الجزيرة العربية انتشر الإسلام إلى سائر الأرجاء، وتلتقي في محاور بيئية وتقاليد اجتماعية، وتتشابه أو تتقارب في مستوى المعيشة، ولم تشهد حروباً داخلية استناداً إلى مفاهيم قومية أو دينية، بل إن دول مجلس التعاون الخليجي لم تشهد أصلاً نزاعات مسلحة فيما بينها، مما يعطي كلاً من التجربتين خصوصيتها، ولكن إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي وبينها ما بينها من الحروب والمشكلات والتمايز العرقي والقومي، باتت على استعداد لطي صفحة النزاعات المسلحة والحروب التي كانت تنتقل إلى خارج القارة، والعمل في إطار التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، في عالم يتنازعه الكبار لوحدهم ويتحكمون في مصائر الشعوب ويصادرون حقوقها وإرادتها السياسية، وهنا تكمن أهمية الخطوة الأوربية، من دون أن تكون لها الريادة في هذا المجال، فالعرب على وفق هذا التوصيف، هم أكثر الأمم تطلعاً إلى العودة إلى الحالة الطبيعية التي استطاعوا عبرها إقامة أكبر تجربة حضارية عرفها التاريخ. تصدير الأزمة الإيرانية الداخلية التدخل الإيراني لمنع قيام الاتحاد واستعراضات القوة بالتظاهرات التي سيّرتها أوامر الولي الفقيه، يعكس حقيقة الوضع الداخلي في إيران، وكأنها تحاول الإفلات من أزمة مستحكمة وخانقة، وتسعى إلى تصديرها إلى أضعف الحلقات الإقليمية على وفق تصورها، وهو الساحل الغربي للخليج العربي، فالوضع الداخلي في إيران يعيش تراكماً من الأزمات القابلة للانفجار وهذا ما عكسته نتائج الانتخابات الأخيرة، والصراع بين محمود أحمدي نجاد وعلي خامنئي. كما إن الأزمة السياسية الداخلية التي تعصف بإيران، نتيجة القمع الذي تمارسه أجهزة الأمن المختلفة، على مستوى الشارع، وخاصة على جيل الشباب وخريجي الجامعات، الذين تزدحم بهم الأرصفة المهملة، والذين لا يجدون فرصتهم للتعبير عن إنسانيتهم وآرائهم بحرية، واقتصادياً بعد التدهور الذي شهدته القطاعات الإنتاجية وتصاعد نسبة البطالة التي وصلت أرقاماً مذهلة، فهناك نحو خمسة ملايين عاطل عن العمل، مما دفع بنحو ثمانين بالمائة من الإيرانيين إلى ما دون خط الفقر، بسبب الإنفاق المجنون على التسليح، في محاولة لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية الغابرة، وإخضاع المنطقة إلى منطق الابتزاز عبر التلويح بالهراوة النووية، هذه الظاهر كلها مع كثير غيرها من الاضطهاد القومي والمذهبي، جعلت إيران في وضع لا مفاضلة لها فيه بين أمرين أحلاهما مر، فإما أن تلقي بأحمالها على جيرانها مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات وتوترات إقليمية، أو أن تقبل المجازفة بتنفيس الاحتقان الداخلي، الذي إن حقق مكسباً مهما كان ضئيلاً فإنه لن يتوقف عند خط النهاية، لسبب بسيط وهو عدم وجود خط للنهاية في إرادة الشعوب. هذه التطورات في صورة المشهد الإقليمي، لم تكن مفاجئة لأحد من المتعاطين مع الملف الخليجي والدور الإيراني فيه، ولكن المثير في المشهد والذي استوقف اهتمام المراقبين، أن أولئك الذين كانوا حتى الأمس القريب يتظاهرون في الشارع البحريني، وهم أقلية ضيقة وفاقدة للبوصلة الوطنية، ويرفعون صور الخميني وخامنئي مع شعارات طائفية ترى في الارتباط بالولي الفقيه خياراً مقدساً، ويطالبون بضم البحرين إلى ممتلكات إمبراطورية الولي الفقيه، استيقظوا فوجدوا أنفسهم من دون سوابق تمهيدية، من أشد المدافعين عن استقلال البحرين وسيادتها إذا اتجهت نحو تعزيز علاقاتها مع محيطها العربي، لأنهم يفهمون مبادئ السيادة والاستقلال على أنها إلحاق البحرين في إيران. فهل هناك قانون يمنع بلداً أو مجموعة من البلدان من الاتفاق فيما بينها، على أن تقيم كياناً سياسياً على أسس فدرالية أو كونفدرالية أو أية صيغة أخرى؟ وهل تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية بقوتها كلها من منع توحيد شطري فيتنام، في دولة واحدة منتصف سبعينيات القرن الماضي؟ وهل تمكنت القوى الدولية الكبرى من منع إعادة توحيد الألمانيتين بعد أسقط سكان شطري برلين جدارها الذي ظنه السوفييت خالداً خلود نظامهم الشيوعي؟ وربما تقود هذه التطورات الدولية المتسارعة كلها، إلى تساؤل يترك مرارة في الحلق العربي: هل أن الوحدة أو الاتحاد أو حتى مجرد التقارب، شعارات ممنوع على العرب مجرد التفكير بها؟ وربما يصبح التساؤل عن أسباب تلكؤ مشاريع الجامعة العربية، سواء في مجلس الوحدة الاقتصادية العربية والسوق العربية المشتركة، وكذلك في تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، في محله تماماً، خاصة وأن المشاريع البديلة أو لنسمها المكملة للجامعة العربية كمجلس التعاون الخليجي أو مجلس التعاون العربي أو الاتحاد المغاربي، لم تحقق كثيراً من أهدافها، وإذا ما تجاوزنا موضوعي مجلس التعاون العربي الذي توقف نشاطه عام 1990 لأسباب معروفة نتيجة حرب الخليج الثانية، وكذلك الاتحاد المغاربي الذي يعيش عقدة العلاقات المتأزمة بين المغرب والجزائر بسبب قضية الصحراء المغربية، فإننا سنقف في حيرة بالغة أمام أسباب عدم تحقيق مجلس التعاون الخليجي، خطوات إضافية على طريق توحيد دوله وهي الأكثر جذباً لشهية التدخل الخارجي، لا سيما وأن هناك مشاريع معدة لتعرض على القمم، ولكنها في اللحظات الأخيرة تسحب تحت لافتة إخضاعها لمزيد من البحث والدراسة، نعم القفز فوق الحقائق الميدانية، يمكن أن يؤدي إلى إخفاق أية تجربة تنسيقية إذا أردنا الابتعاد عن مصطلح الوحدة، لأن الإخفاق يمكن أن يؤدي إلى حالة انكسار نفسي وسياسي، تكون تأثيراتها أكثر تدميراً مما لو لم تتحقق الخطوة التوحيدية، على ذلك فإن التأني في كل خطوة وإخضاعها إلى مزيد من الدراسة والبحث وتفعيل مراكز الدراسات الاستراتيجية في المنطقة، وحتى من خارجها تعد خطوة مهمة جداً على طريق إنضاج الرؤى وصولاً إلى الحالة التي ترضي جميع الأطراف، لكن ما هو حاصل الآن، ليس الاختلاف على التفاصيل بقدر ما هو اختلاف على مبدأ التنسيق أو الاتحاد، ففي محاولة إقرار العملة الخليجية الموحدة، وقفت دولة الإمارات العربية ضد المشروع، واشترطت أن يكون مقر البنك المركزي الخليجي في أبوظبي، مع علمها المؤكد أن شرطاً كهذا هو وحده القادر على نسف الخطة من أساسها، والآن تطرح الكويت تصورات ربما فيها محاولة لوقف قطار الاتحاد حتى قبل تحركه، عن شكل النظام الدستوري للاتحاد المقترح، وتتحدث عن تجربتها الديمقراطية، التي تصفها بأنها رائدة في منطقة الخليج العربي والتي لا يمكنها التفريط بها في أي ظرف من الظروف. وإذا كانت الإمارات العربية والكويت أعلنتا موقفيهما من فكرة الاتحاد، فليس معنى هذا أن بقية الدول الأعضاء ليست لديها تحفظاتها على المقترح السعودي، غير أن الحرص الإماراتي على البحبوحة الاقتصادية، وكذلك الحرص الكويتي على فسحة الحريات العامة، ينبغي أن يتم بحثه مع البديل الأسوأ، وهو، أن كلا الطرفين يستطيع ضمان ديمومة ما عنده من معالم يفخر ويرفض بسببها التنازل لأشقائه في المجلس، والتي يمكن أن تصادرها دفعة واحدة التوسعية الإيرانية، في حال تغير موازين القوى الدولية والإقليمية، وخاصة في حال امتلاك إيران للسلاح النووي، وحينها تصبح الديمقراطية الكويتية والبحبوحة الاقتصادية الإماراتية، في مهب الريح أو في قاع الخليج العربي أو تحت قبضات الأميين وأنصاف المتعلمين من عناصر الحرس الثوري الإيراني، ومن الذين سيتراصف معهم من مليشيات حزب الله العراقي والكويتي والبحريني، وسائر المناطق التي توجد فيها الخلايا النائمة لهذا الحزب. إيران وضعت نفسها في أصعب موقف تضع دولة نفسها فيه، حينما مارست دور الوصاية على إرادة شعوب المنطقة، وخاصة الشعب البحريني، وأطلقت لنفسها الحق في أن تمنع أو تمنح ما هو حق حصري للشعب البحريني وحده، وحينما قادها انفعالها وهلعها من إقامة الجدران الشاهقة بوجه نواياها لإلحاق البحرين بإمبراطورية فارس الجديدة، تحول حديثها إلى الدفاع عن سيادة البحرين واستقلالها، فهل يوجد تهديد لسيادة البحرين واستقلالها أكبر من التهديد الإيراني؟ ومع ذلك هل تستطيع إيران بعد قيام الاتحاد أن تمارس دور الولاية على دول الخليج العربي؟ وربما لن تستطيع أن تحكم قبضتها على الداخل الإيراني فيما لو أحسن العرب، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي التحكم بالملفات الحساسة، مثل ملف القوميات والمكونات المذهبية، في بلد يمور فعلاً تحت ضغط مرجل قابل للانفجار في كل لحظة، فيما لو استطاع أحد الوصول إلى فتيله وإشعال النار فيه أو على مقربة منه.