كتب - المحرر الثقافي:
في كتابها “(الراوي) بين الحكاية والخطاب في قصص محمد عبدالملك” الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام، تذكر الباحثة د.أنيسة السعدون أن محمد عبدالملك “من أبرز القصاصين البحرينيين الذين دعموا مسيرة قصة البحرينية منذ السبعينات، فقد أثرى تلك المرحلة بعدة قصص، وقد طرق فيها أفاقاً تكشف خصوصية لها لونها المحلي”، مبينة أنها “خصوصية تسم السياق الحضاري الذي اختمرت فيه النزعة التأصيلية للقصة البحرينية، وتشف عن الرؤى الفكرية التي تحكمت في وراد تلك الفترة، والتي غالباً ما كانت تدعو إلى استلهام الواقع بتجلياته وترغب عن المروق عن المستقر من التصورات المتحكمة في نصوص تلك الفترة”، إن ذلك بحسب الباحثة “ربما يفضي إلى إشارات كاشفة ومنافذ هامة تمهد لنا السبيل إلى تحليل بعض العلاقات التناصية في صلاتها بالواقع، وضبط أشكال حضور الراوي فيها”.
العنوان لم يرد اعتباطاً
لقد اختارت د.السعدون بحثها بعنوان “الراوي بين الحكاية والخطاب - في قصص محمد عبدالملك”، نظراً لعدة اعتبارات أوضحتها وهي: “ما توليه مسألة الراوي للحكاية والخطاب من خصوصية، يتمثل جورها في العلاقات التي يقيمها الراوي بينهما، كفعل سردي يتولى مهمة إنتاج القصة”. أيضاً “ليس من شك في أن الحكاية من أهم مقومات القصة، ولكن متى أمعنا النظر في تركيبها، جاز لنا القول إن الحكاية لن تكون، وهي مفصولة عن القائل الذي ينهض بها، ويعيد بناء مقوماتها، إلا ضرباً من التجريد ولذلك فهي لا توجد بذاته. والشأن نفسه مطروح بالنسبة إلى الخطاب، فالخطاب ليس معتبراً في ذاته، إذ لا يمكن أن ينظر إليه إلا في علاقته بالمادة الحكائية، الأمر الذي يقتضي راوياً يتولى مهمة تقديم ما وقع. وهذه الصيرورة التي يقوم بها الراوي، بجعل الخطاب منوطاً بالحكاية، هي التي تمكننا من دراسة الخطاب الحكائي، والوقوف على ما يسمى من خصائص وسمات”.
اعتبارات أربعة
وتعزي د.السعدون اعتنائها بالراوي في نصوص (محمد عبدالملك)، وإنزاله بين الحكاية والخطاب إلى عوامل عدة تتجلى في “احتلال الراوي في قصص (عبدالملك) دوراً مركزياً مكنه من أن يضبط عقداً واتفاقاً يوازي به بين طرفي النص القصصي في الحضور، إذ لم يكن للخطاب طغيان في البروز على حساب الحكاية إلى حد الترف الشكلي، كما هو حاصل الآن في جل الأعمال القصصية المعاصرة. ولعل ذلك يرجع إلى ما اصطبغت به قصص (عبدالملك) من صبغة كلاسيكية تقليدية، غالباً ما تركز على أحداث الحكاية وشخوصها، محتفية، وهي بصدد ذلك، بالخطاب الذي تبرز مقوماته من خلال ما يتخذه الراوي من طرائق وأساليب في التقديم”. أما العامل الثاني فتردّه السعدون إلى “ما لمسته من تميز للراوي في قصص (عبدالملك) من سائر العناصر، لالتباس صوته، بشكل بارز، بصوت كاتب يقبع خلفه، ويحمل هموم واقع معيش، ويتأثر بالتحولات والتغيرات المحيطة به”. لكنها تنفي أن يكون معنى ذلك أن يكون همها هو “البحث عن الهوية الإيديولوجية للراوي، بصورة ملحة، فذلك قد يجرنا إلى إسقاطات تحيد بنا عن الموضوعية التي إليها نطمح، وتقصينا عن أساسيات المنهج الذي عليه نعتمد في هذه الدراسة، وقد يزج ذلك بنا إلى تذويب ذات الراوي الخيالي، وتضخيم حضور ذات الكاتب الواقعي، بما يفضي إلى إمحاء المسافة بين ذات الكاتب وبين الذات الفاعلة في الخطاب (الراوي)، وأيضاً بينها وبين الذات الفاعلة في الحكاية (الشخصية)، وهذا ما لا ينطبق على النصوص السردية الإبداعية، وإلا لتحولت إلى شهادات، ووثائق، وخطابات أيديولوجية”.
الدراسات لم تعن بالراوي
وتشير د.السعدون إلى أن العامل الثالث يرجع إلى أن كثيراً من الدراسات التي أمكنها الاطلاع عليها، والتي تصدى فيها أصابتها لقصص (عبدالملك) بالنظر والتحليل، لم تول جلها مسألة الراوي اعتباراً، كما إن أغلب ما عولج من قصص (عبدالملك) جاء في صورة مقالات منثورة نشرت في صحف ومجلات متفرقة، مرجحة أن يكون كتاب (القصة القصيرة في الخليج العربي) لإبراهيم غلوم، من أوائل الكتب التي اعتنت بدراسة بعض من قصص (عبدالملك). إلا تلك الدراسة جاءت في مبحث موجز، اندرج تحت فصل بعنوان “الواقعية الفنية.. بين نقد الواقع والرغبة في التغيير”. أما كتاب (عبدالله خليفة) وهو بعنوان (الراوي في عالم محمد عبدالملك القصصي) فيبدو، وهو الأرجح، أنه أول كتاب تمحض لدراسة الراوي في قصص (عبدالملك).
وتضيف د.السعدون: أن “الأقلام التي تناولت قصص (عبدالملك) على كثرتها، نسبياً وتنوع عناوينها، جاء منهجها في الدراسة مغايراً لمنهج دراستنا، إذ غالباً ما اتخذ أصحابها من فكرة علاقة الفن بالواقع منطلقاً أساساً للدرس، وقد تمخض عبر ذلك مقاربة نصوص (عبدالملك) مقاربة اجتماعية، تنظر إلى النص على أنه انعكاس للواقع، ومحاكاة له”. وتتابع: لقد تناول (إبراهيم غلوم) في كتابه بعضاً من قصص (محمد عبدالملك) تحت عنوانين رئيسن هنا: “محمد عبدالملك والنماذج المجهدة”، و«محمد عبدالملك - النماذج بين منابعها الرثة ومنابعها (المثقفين)”. وليس يخفى ما ينطوي عليه كلا العنوانين من أبعاد أيديولوجية، واهتمام بالمنهج الاجتماعي كبير، فقد اعتبر المؤلف الشخصية القصصية، ممثلة للواقع، ومرآة عاكسة له. أما بالنسبة إلى مسألة الراوي فلم تكن لتشغل المؤلف، وإن أتى على ذكره كان ذلك بالانطلاق من موقع أيديولوجي، ليكون الراوي عنده مقترناً أبداً بالكاتب، بل هو الكاتب الواقعي ذاته.
كتاب عبدالله خليفة
وتواصل: “أما بالنسبة إلى (عبدالله خليفة) فقد درس في كتابه، الآنف الذكر، خمس مجموعات قصصية، متخذاً إياها عناوين لفصول دراسته، لتكون خطة البحث على النحو الآتي: موت صاحب العربة، ونحن نحب الشمس، وثقوب في رئة المدينة، والسياج، ورأس العروسة، مع مدخل يتحدث عن “ملامح عامة لتطور القصة في البحرين”.
إن عنوان الكتاب يوهم أن الباحث بصدد دراسة مسألة تتعلق بالشكل هي مسألة الراوي، في ارتباطها بالمضمون حيث عالم (عبدالملك) القصصي، ولكنه في حقيقة الأمر، ينصرف عن تناول مسألة الراوي، وييمم وجهة شطر عالم الحكاية، حيث آثر مكوناتها بنصيب وافر من الشرح والتحليل، مما جنح به إلى تهميش دور الراوي إلى حد أنه عده، في أكثر القصص تميزاً، فيما يقدر شيئا ً غير ذي أهمية. وقد درس الباحث كل قصة منفصلة عن الأخرى، ولم يربط بعضها ببعض إلا لماماً، وذلك ليقف على ما يجمع بين شتات تلك القصص من سمات مشتركة. وهو في ذلك كله لا يدرج ما تناوله في هذه القصص تحت عناوين تضم تلك المكونات بعضها إلى بعض، وتضبط موضوعات البحث، وتعمل على اتساق دلالاتها، التي ودعنا في مقدمة كتابه بتتبعها، وكان من نتيجة ذلك أن يركز الباحث على تلك المكونات في بعض القصص، ويهمل الحديث عنها في قصص أخرى، وليس له، وقد فرطت منه خطة البحث، من شرعة بينة ومستقرة تحدد البحث بفصول لها عناوين مفصلة ومضبوطة، تجعل للدراسة فيها بدايات وتسيرها إلى نهايات مخصوصة، أو نتائج موصولة بأسباب”.
النموذج التطبيقي
وتشير الباحثة إلى أن العامل الرابع “يخص النموذج التطبيقي الذي فصلت فيه الدراسة تحليلها النقدي، حيث تجربة محمد عبدالملك القصصية”، مبينة أن “اختيار هذا الكاتب لم يأت اعتباطاً، بل إن هناك أسباباً تاريخية وأخرى فنية جعلها تؤثر هذه التجربة على غيرها” مشيرة إلى أن محمد عبدالملك كثيراً ما كان يستعين ببعض العلاقات التناصية في صلاتها بالواقع، لإنجاز عمل يختلط فيه الحلم بالواقع، والوهمي بالحقيقي. حين يقول في إحدى شهاداته: إن “التغييرات في القصص لدي هي بحجم التغييرات التي تفصل سني الخمسينات عن المنتصف الثالث من الستينات وبداية السبيعنات، وهي الفترة التي بدأت فيها الكتابة. وما نحن إلا ثمرة شجرة ظروف اجتماعية، نضجنا فوق هذه الشجرة بفعل تأثيرات مختلفة، وجاء تكويننا في النهاية ليصب في مصب هذه المرحلة، المرحلة التي حاولنا أن نرسم لوحتها بقدر ما رسمتنا نحن”.