قصة قصيرة – جعفر الديري:
«صوت المجرفة يشبه صوت الهررة”. قلت ذلك لسعاد فضحكت. أنثى تأكل السمن والعسل؛ وتنام على الفرش الوثيرة، في القصر الفخم، تستطيع الشعور بما يشعر به إنسان يحفر التراب ليل نهار!.
جلست فوق الحجر الكبير، وأسندت رأسها إلى جدار الكوخ الخشبي. كانت ترتدي فستاناً أبيض، وتضع على رأسها تاجاً ذهبي اللون. كانت ملامحها جميلة وبشرتها ناعمة، وفي عينيها حزن يعجبني... متمرّدة، غريبة الأطوار، تبحث عن المشكلات، ولا تقيم وزناً لفارق السن بيننا، ولا لنظرات الناس وكلماتهم الجارحة.
مجرفتي كانت تحفر عميقا في التراب، كنت أزيح الأحجار بيدي ثم أعاود الحفر، وكان يلذّ لها مشاهدتي والعرق يتصبّب من جبيني، رغم أن الطقس في هذه الناحية لم يكن شديد الحرارة. سألتها عن السبب فذكرت لي أنها لم تشاهد يوما لا أباها ولا أحدا من أقاربها يتصبّب العرق من جبينه، فجميعهم يعيشون في أماكن مكيّفة شديدة البرودة، وجميعهم لا يعملون، أما أنا فشيء آخر، رجل حقيقي!. ضحكت لتفكيرها، وألححت عليها بتركي، لكنها أصرّت على مصاحبتي، أنا الرجل الخمسيني، كثّ اللحية والشارب، الجوّال الذي لا يستقر في مكان واحد!.
خرجت من الحفرة، فلمحت رجلاً طويل الجسم عريضه، يتقدّم نحوي، حركاته تشبه حركات آلة خلط الاسمنت. حتى إذا صار بإزائي، لم يزد على أن قال “سيدي يطلبك.. لا تتأخر”، ووقف قريباً مني. انتبهت سعاد، فقامت من فورها وتقدمت مني..
- ما كان يريد؟
- إن أباك يطلبني..
ردت في نزق:
- لا تذهب..
- لا تخشي شيئا..
- أرجوك..
مسحت على رأسها:
- أنت لا تعرفيني يا صغيرتي
رميت بالمجرفة، وتبعت الرجل. أخرجت علبة السيجار ورحت أدخن في هدوء، مستمتعا بالنظر إلى النخيل والأشجار. لم يعد شيء يخيفني، لقد رأيت من الأهوال الكثير، ومن الرجال أصناف شتى، وقرّ في ذهني أن الرجل القاسي أضعفهم، وأنّ كلمة واحدة محسوبة يسددها الانسان له؛ تقضي عليه في الحال، كما هو شأني حين يعتدي علي أحدهم، أوجّه له ضربة أسفل البطن، تتركه يخور كالثور.
تبدى القصر مهيبا، واسعا ذو مداخل شتى ومداخن تملأ السطح، يقف قربه خادم ضخم الجثة، متجهم الوجه، يتحرك كآلالة، بدت عليه الدهشة، إلا أن رفيقي، أسرّ في أذنه شيئا، فتراجع إلى الخلف. دخلنا في ممرّ ذو سجادة حمراء، على جانبيه جدار خشبي زاه. في نهاية الممر رجل في الخمسين من عمره، يجلس على كرسي خشبي، يرتدي بدلة داكنة اللون، ويضع نظارة سوداء، يقرأ في كتاب. كان باردا لدرجة أصابت جسمي بقشعريرة.
وقفت أمامه لأكثر من ثلاث دقائق، دون أن يعني برفع رأسه عن الكتاب. كان من الواضح انه يريد استصغاري. سخرت منه ومن الحياة التي يعيشها، والتمست العذر لسعاد!. أخرجت علبة السيجار من جيبي، وأشعلت سيجارة ورحت أدخن في هدوء، ملقياً رذادها على الأرض، وصلته رائحة الدخان، فقفز كأن حية لسعته. لم أغير من ملامحي شيء، نظرة الاستصغار نفسها كنت أوجهها له.
وقف مبهوتا، نظراته مصوّبة علي، فيما أقبل ماردان ينتظران إذنه ليمزقاني. تعساء، لا يعرفون من أكون، ولا ما أحمل في قلبي، حتى لو اجتمع عشرون منهم، لما حركوا بي ساكناً، لقد رأيت أمثالهم، ودخلت في معارك معهم وخرجت منتصرا، فلماذا أخشاهم؟! صرخ الرجل البارد بعصبية، لكن صوت سعاد جمّده في مكانه. لم أكن أعلم أنها كانت تلاحقني، كان ضعيفاً أمامها، وسرعان ما أشار لمردته بالتوقف...
- أتودّ قتل الرجل أبي؟
- ألا تشاهدين غروره ابنتي؟
- أنت من طلب حضوره؟
- عليه أن يعلم أنه في حضرة أسياده
- لكنه غريب عن البلد
عندها توقف عن نباحه، وعاد إلى هدوئه وأمسك بكتابه. ورغم اني رغبت في ملاسنته، أخذت سعاد بيدي إلى خارج القصر. دهشت لقدرتها، فهي لا تمارس سحرها على أبيها وحسب، بل على جميع من في القصر.
سألتني:
- لماذا فعلت ذلك؟
- وماذا فعلت؟
- لماذا رميت برذاذ السيجارة على الأرض؟
- أتودين معرفة السبب فعلا؟
- طبعا..
- لذات السبب الذي جعلك تعجبين بعرقي
- ماذا تعني؟
- عندما دخلت قصر أبيك أحسست بقشعريرة في جسمي، فالبرودة كانت في كل مكان، برودة عذرتك بسببها عندما قلت أن عرقي يعجبك، فشعرت برغبة عارمة في التدخين.
إبتسمت في وجهي، وأصرّت على مرافقتي إلى كوخي. كان الناس ينظرون إلينا في استنكار، شيخ بصحبة فتاة جميلة كسعاد. انصرفت، فدخلت كوخي، واستلقيت على الفراش متعبا، لكنني لم أنم، نهضت واغتسلت، ثم أخذت كتابا من درج مكتبي المثقل بالكتب وبأشياء أخرى. كانت هذه عادتي، أقرأ حتى يحل المساء، ثم أجلس عند باب الكوخ أدخن، حتى يحين موعد النوم. في أغلب الأحيان تأتي سعاد لمسامرتي، وفي أحيان أخرى أقضي بقية الوقت في التأمل. أخرجت صورة فوتوغرافية من محفظة النقود، كانت صورة تجمعني بزوجتي وولديّ، لقد بلغا الآن السابعة عشرة من العمر، ولا أعلم إن كانا يتذكراني أم لا!.
لي طبع غريب لا أعلم له تفسيرا، كيف للانسان أن لا يرغب في صحبة الناس، كيف للإنسان أن يزهد في الجميع، بمن فيهم فتاة صغيرة مثل سعاد، تطلب حياة ذات مغزى، من رجل ممزق لا يعي معنى للحياة، ترك خلفه زوجة وطفلين، واختار الحياة متشرّداً من مكان لآخر. رجل مثقل بحكايات شتى، تراود مخيلتي، لكن أي منها لم يعد يشفي غليلي، أشعر بما تشعر به سعاد، يمكن أن تكون لقمة سائغة لمن ليس له ضمير، يزين لها ترك كل هذا الثراء مقابل معنى للحياة!. كشأني أنا، لم أكن فقيرا ولا ضعيف الحال. كان أبي قد ترك لي وأخوات ثلاث مبلغاً لا بأس به من المال، وأكثر من عقار، وكان يمكنني العيش بهدوء، لكنني لم أكن سعيدا، فمنذ أن شغفت بالقراءة وأنا رجل تعيس، ليتني لم أعرف الكتاب، ليتني عشت جاهلا، أتبع شهواتي دون تفكير أو تبصر، قرأت كل ما وقع في يدي، ومع كل سطر أقرأه كان إحساسي بعبث الحياة يتضاعف. تعرفت على البروفسور العالم الكبير، فتح لي مكتبته أنهل منها ما أشاء؛ فزاد إحساسي بالشقاء والتعاسة. وردني مسج منه يوما يطلب لقائي في بيته، ذهبت إليه، فماذا وجدت؟.! وجدته فاتحاً فاه وهو على كرسيه، لقد قتل نفسه! عندها قررت أن لا أبقى في مكاني، ودّعت أهلي وكل من أعرف ورحلت باحثا عن شيء مختلف. مررت بمحطات شتى، وآخر محطاتي، هذا الكوخ وهذا العمل الشاق، وهذه الفتاة الجميلة، ولا أعلم غداً أين سيكون مستقري.