فاطمة بوجيري


«حبك كان شتاءٌ فقط، لم أكن أعلم أن بالحب مواسمٌ، الآن علمت، شكراً لك” هكذا نطقت بها ببرودةٍ زرقاء، لم ترعَ شعوره، لم تكترث لظروفه، قاسيةٌ كانت، سليطة اللسان، طفلةٌ متكتلةٌ من السذج المجنون، ناسيةٌ أنها تحبه، فكيف لها أن تجرح وتطلب السماح بالنهاية!!! فالآثار تبقى عالقة لا تنسى.
«الحنية المزاجية»
لنرجع قليلاً للبداية، هي امرأةٌ ضاحكة ذو خفة دمٍ ملونة بألوان الفرح، حساسة رقيقه تملأ دفاترها بخواطرٍ رومانسية، جميلة، ما زالت طفلةٌ بالعقل، تفكر بقلبها فقط. أما هو فرجلٌ شاعر، يهوى الفن والعزف على أوتار العود العربي، باختصار ثلاثة أحرف “ص ع ب« صعبٌ يتجسد بــ صلبٍ عربيٍ بركان، لكنهما اتفقا في صفةٍ واحدة “الحنية المزاجية”.
حبٌ وعفوية
تعرفا على بعضهما في الشتاء، بالأدق في نهاياته، مع رضوخ قطرات المطر العذبة، كان الجو حينها يفرض نفسه عشقاً لا أعرف كيف أقوله أو أصيغه باللغة أجمع، أستطيع القول إنه عربيٌ بارد، كتلك الكلمتين المتناقضتين، مغري بحق، فارضٌ لا مفروض.
هكذا كان غزير الرجولة بحرُ الخشونة، أحبها بشفافية راقية، العفوية كانت ميزةٌ ترابطت معهما، حتى شجارهم كان غريباً، بل بالأصح كان شجاراً بحرارة العشاق.
صمت الرجال
إلاّ انه كان من نوعية الرجال الكتومة، كتوم القلب لا يفصح بالضيق، يهوى السكوت، لا يريدها شريكةً بالحزن والهم الأحمق، بل بجّلها وقيدها “سعــــادةً” بيضاء، أخبرها ذات مرة لا تفسري كل حركة، فليس كل ما نقوم به مقصود بل عفويٌ وجميل، لنعش بسعادة فقط لا أكثر.
لم تفهم هي طبيعته بالرغم من عشقها المجنون له لدرجة تصل إلى الهلوسة والهذيان باسمه، كأنها خلقت من أجل حبه فقط لا للحياة وممارسة الدنيا بشكل طبيعي، لم تفهم أنه رجل عقلاني يمزج الحب بقلبه وعقله لا قلبه فقط كما فعلت، فإن غاب بعمله أو لأشغاله اليومية غضبت ولم تفسح له مجالاً للتنفس، إن كانت لديه ظروفاً عائليه من مشاكل بسيطة سواء بعمله الصباحي أو هواياته بالعزف والكتابة أم مع أهله، كله لديها سواء، تزعجه بأسئلة سطحية، أين أنت ولما لم تخبرني بيومياتك، لتفسر انشغاله بعدم الاكتراث لها والسأم منها وأنه أصبح لا يهواها، وعلى عكسها تماماً كان هادئ الطباع لا يحب سرد أحداث حياته مفصلة فتلك يوميات عادية ليست مهمة –الحبيبة- ليحكيها تفصيلاً، فهو يرى أن العشق خلق للراحة والهدوء، للسعادة بمساحة خضراء ناعمة، بيضاء قطنية، لا للانزعاج وتحقيقٌ يومي تافه وطفولي.
موسمية الحب
هي من رأت وتخيلت لوحدها تلك الموسمية الغبية، في حين انه كان رجلٌ يعشقها وينطق حبا ًكل يوم من اجلها، لم تقبل بذلك، ظلت تنوح وتنوح على قلبه أين أنت، لماذا أنت جافٌ معي هكذا!! هل مللت مني!! هل أنا تسليةٌ وانتهى أم ماذا! اخبرني!!. ظلت تقذفه بالكلمات الجارحة الصارخة كرهاً، لم تتيقن إنها بهذه الطريقة تلقنه كراهيتها؛ وهو يصمت ويصمت فربما السكوت يجدي نفعاً... وهكذا كانت تتكرر المواقف.....
لم تكن تفقه ما يجب فعله، كان عليها تفّهُم طباعه، وإعطائه حباً أكثر، وسقيه عشقاً أعمق، كان عليها أن تهدأ من همومه وظروفه أياً كانت، فالرجل طفلٌ يحتاج للحنان الأحمر.
الفراق
لكن لما كثر جدالهم بات الطرفان لا يتقبلان ذلك الجدل حتى قررت أن تنهيه من حياتها فمسحت رقمه وكل ما يتعلق به فلا تريد أن تذكره أبداً، اعتقدت أن النسيان أمرٌ سهل!! مَرَ أول أسبوع وهي مرتاحة، وحّل الثاني، لا هي ليست هي، كانت تبكي كل يوم بصوتٍ أجهش بغرفتها، تفتح التلفاز وتقوم برفع صوته حتى تبكي ولا يسمع نحيبها أحد بالمنزل، لتصل إلى مرحلة التعب ثم تستلقي على الأرض فوق السجادة، هكذا تعاد يومياتها ثلاث مرات باليوم، بالفجر والظهيرة ومنتصف الليل، حينها عرفت أن النسيان ليس بأمر سهل إنما حارق الصعوبة مؤلم الأثر، لتنقلب أفكارها له، وتقول كيف لم يذكرني كيف لم يشتاق!! يشتاق!! يشتاق!! فقامت بإرسال رسائل نصية تلومه على عدم شوقه ونسيانها تغيظه فيها بكلماتٍ وقحة لتجرحه أكثر، وتعود هي لطباعها لتفكر بالانتقام منه بأية طريقه، حتى قام بمهاتفتها قائلا: “ ما بك لما هذا التصرف!! أنت من رماني بزهيد الثمن، ولست أنا، والآن تجرحينني أكثر بكلماتك تلك، لمَ ما السبب، عشقتك عشقاً لا رسم له ولا نطاق، قدمتك بالمقدمة، عاملتك كالأميرة، ولم تلقِ مني أي سوء يذكر، أنت أدخلت نفسك ببداية لست بحجمها فأنهيها لوحدك، آسفٌ ولكن لي كرامه، آلمتِني كثيراً لن أنسى هذا الموقف لن أنسى، كيف لي ذلك.. لا أستطيع، تنهيني من حياتك لوحدك دون استئذان ولا قيمه لي أبداً، والآن تعودين بمزاجك أنت، ناسية أن لي قلباً ولي كرامة!! أحبك ولكن... كل شيء وله حدود.....)
العشق والجنون
جميل عندما يكون المرء ليس بحوزة نفسه ولا ملكاً لذاته، بل هناك بقلب العشيق، كيف يفسر ذلك المنطق لا أعلم؟ لكن قبيحٌ إن كان هذا الأمر قد اقترن بالجنون، كما فعلت هي، أحبته لكن بجنونٍ فاق الجنون ذاته.... كل شيء يزيد عن حده لا يقبل، حتى الحب. لقد صاغت حبها بالجنون، وآمنت بعبارة “من جن بالحب فهو عاقل ومن جن بغيره فهو مجنون”، واتضح واقعاً أن هذه العبارة تفاهاتٌ بتفاهات، فالرجل لا يعشق الجنون بتاتاً، بل يعشق كرامته، فجميعنا سمعنا عن مجنون ليلى، ولم نسمع عن مجنونة قيس، فصداه ليس بجميل، ينحت المسامع ليجرحها، ويجرمها عرفاً لا شرعاً، فهي امرأة، وما تشتهيه الأنثى محرمٌ بجميع الفصول والأشكال.
جروح العشاق
هكذا علمها، لقد هجرته بحماقة، وهدمت حباً أسطورياً، ندمت لجرحه هكذا، لكن ما الفائدة فجروح العشاق تؤلم ولا تنسى.. والآن ذكراه زخرفةٌ منحوتة بصدر السماء، هناك بالأعلى تلامس سطح البدر لا لبه، فكما كان يردد لها سابقاً: لا تفسري كل شيء لنعش بسعادة بلا تحليل لماذا وكيف وهل.... فعلاً أحياناً الأمور دون تفسير وتحليل ووضع رسوماً لها، تظهر بصورة أجمل وانعم، والاهم أنها ألذ هكذا، دسمة لا تسد الشهية وتطلق العنان، مشبعة بالعسل والملوحة باَن واحد، كمقرمشات مالحة تعلو سطح الآيس كريم الحليبي السكري، كروح متناقضة لكن متجانسة، متعاكسة لكن متقابلة، لا الذع منها..
ما زالت تذكر بدايات تلك القصة الغزلية فقد كان حبٌ بالشتاء، يشتد مع هطول المطر،.كان هو كلمتان: جميــلٌ كالمطــر، رددت لي بنفسها: (كم كان يعشق المطر ويتغزل بسقوطه.. صدقيني ما زلت أحاول إقناع الشتاء بالحلول.. أغلق أبوابه وأسماني “مجنونة”.. مسكينٌ هذا الشتاء لم يعشق حتى الجنون..) كنت اسمعها وأبتسم، تأثرت بها وهي تسرد هذه العبارة فهي تحبه بشكل مجنون.
جروح العشاق تختلف، ليست خدوشا ًعادية، بل طعنات تفرز دماً لا يرى، مؤلم لا ينسى، فكيف للحب أن يمتزج بالجرح، فيخلّف أثراً لا اسم له، ولا وصف يخط من أجله، وحدهم العاشقون من يفهم هذا المصطلح، فهو جمعٌ لحروف تتعدى الثمانية والعشرين حرفاً باللغة، لم تخلق حروفه بعد...... فخيبة الرجل العاشق بالحبيبة حكايةٌ لا تنتهي...
من القلــب:
البارحة مريت دارك..
آخ وشقد كبر مقدراك..
لبست ذاك إلي تحبه..
وحطيت العود إلي توده..
وتميت أجوف البدر..
وسميته بأسمك..
كان على شكلك..
تميت أصيح بيمر..
قلت جود هوة يمر..
ولا مريت ولا مريت..
ناديتك.. ولا حتى علي رديت