قلت: لقد حدثتني عن عالم المثل أو الروح من ضمن مثالياتك الكثيرة التي ترجع المشاعر الإنسانية إلى ما يشبه صدفة ما ورائية، أو حادث مرور عاطفي في السماء السابعة ولكنني لم أقتنع قط بأن العالم يجب أن يكون مقسماً إلى عالم علوي (وهو عالم الروح) وعالم سفلي (وهو عالم الجسد)، وأن بين العالمين صراعاً أبدياً لا يهدأ ولا يفتر أبداً، ولا أتفق معك ومع النظرية الأفلاطونية على هذا الطرح الذي ينظر إليه الماديون على أنه طرح مثالي سطحي، ولا أجد نفسي مرتاحاً عند هذه القناعة لما تحمله من سذاجة، لأنه لا يبدو لي مريحاً على الصعيدين الخاص والموضوعي، بل لا أعتقد أنه يوجد عند كل إنسان أنا أعلى وأنا دنيا، فهما ليسا متقابلين بالضرورة في نوع من الثنائية الحتمية والقدرية. قال: إن تاريخ الإنسان منذ زمن بعيد وإلى اليوم هو صراع بين قطبي رحى هذه الثنائية فتاريخه نزوع دائب نحو المثل، نحو العنصر النوراني في تكويننا الإنساني، وبعد تأمل ومراجعة، يبدو لي الأمر صحيحاً، فالأنا العليا هي الذات المرتبطة بالروح وهي تتطور وتنمو عبر سنوات طويلة تتجاوز عمر الجسد ذاته، في حين أن الأنا الدنيا وهي المرتبطة بالجسد تتطور بتطور الجسد، فمن هذا المنطلق يوجد لدى الإنسان: ذات ومعرفة ترتبط بالروح وذات ومعرفة ترتبط بالجسد، كما ان الذات المادية ترى في موت الجسد نهاية للإنسان في حين أن موت الجسد في الحقيقة هو عبارة عن تخلي الروح عن رداء الجسد البالي، ولذلك لا يستطيع الإنسان في النهاية ان يتجنب الإصابة بمشاعر الكآبة والحزن واليأس السائدة الآن في حياة الكثير من البشر، بما يؤدي إلى الشعور بالذنب والبؤس والإحباط وخيبة الأمل، أما الذات المرتبطة بالروح فإنها تعلمنا أن المتعة الروحية هي الهدف الأسمى في الوجود الإنساني خلافاً لما يوجهنا له العقل المادي. قلت: بعيداً عن هذه الصياغة الفلسفية أعتقد من واقع الثقافة والتاريخ والمعاينة للتجربة وتفحص تاريخ الإنسان عبر القرون أن تاريخ الإنسان هو بالدرجة الأولى هو تاريخ الغرائز والرغبات (بما في ذلك التاريخ السياسي) ولعلنا في هذا نقارن بالحيوانات، ولكن الحيوانات كائنات غريزية خالصة، لذلك فهي أكثر مباشرة في حين يمتلك الإنسان القدرة على التصعيد والتمويه بحكم امتلاكه لملكات العقل، وبحكم أنه جعل من الثقافة والتقاليد قيدا يحكم سلوكه الظاهر.. لذلك مازالت أؤمن أن الصراع الحقيقي في الإنسان هو بين الطبيعة والثقافة، وأن الشعوب المتقدمة تمتاز علينا بالقدرة على تقليص المسافة بين الطبيعة والثقافة وهي لذلك أكثر صدقاً ومباشرة ووضوحاً في التعبير عن أفكارها ومشاعرها، في حين أننا ما نزال نعبر عن كل شيء يخص جسدنا أو مشاعرنا وحتى بعض أفكارنا بواسطة التمويه والتورية والمجاز اللغوي، لأننا نعيش في دائرتي الخوف والتردد وقلة الحسم، خوفاً من قوة الضغط الاجتماعي - الثقافي.