^  في الرابع عشر من شهر مايو الجاري، سمح مجلس الشورى الإيراني لنفسه التدخل في موضوع الاتحاد الخليجي، بل وإدانة ما أسماه “المشروع السعودي لضم البحرين”، وقال رئيسه علي لاريجاني إن البحرين “ليست لقمة سائغة تبتلعها السعودية بسهولة”. وأضاف بيان أصدره 190 نائباً من أصل 310 في مجلس الشورى الإيراني “إن هذه الخطوة اللامنطقية لاشك ستؤدي إلى تعزيز الانسجام والاتحاد بين الشعب البحريني في مواجهة المحتلين، وستنقل الأزمة البحرينية إلى السعودية، وستدفع المنطقة إلى فوضى أكبر، ولا يمكن تهدئة الشعوب بالقوة والضغوط السياسية”، مشيراً إلى أن “الدماء الزكية للشهداء البحرينيين ستنتصر على السيوف الغازية”. ووصلت الغطرسة الإيرانية لدرجة غير مقبولة حينما عاد النائب حسين علي شهرياري لترديد ذات الإسطوانة “المشروخة” التي دأبت إيران على ترديدها من حين لآخر، حين قال مخاطباً رئيس المجلس “كما تعرفون فإن البحرين كانت المحافظة الرابعة عشرة في إيران حتى عام 1971، ولكن للأسف وبسبب خيانة الشاه والقرار السيئ الصيت لمجلس الشورى الوطني آنذاك، انفصلت البحرين عن إيران”، مضيفاً “إذا كان من المفترض حدوث أمر ما في البحرين، فإن البحرين من حق إيران وليس السعودية، ونتوقع من مسؤولي السياسة الخارجية متابعة هذا الموضوع بشكل جاد”. وفي السادس والعشرين من شهر أبريل الماضي، أعلن قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني الأميرال علي فدوي عن نشر بلاده لألوية من مشاة البحرية في الجزر الإماراتية الثلاث والتي تحتلها إيران منذ عام 1971 وهي أبوموسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى. وقال فدوي في مقابلة تلفزيونية إن “هذه الخطوة تأتي بسبب موقع وأهمية هذه الجزر في الدفاع والهجوم بالنسبة لإيران”. واعتبر فدوي الحديث عن الجزر الثلاث من قبل الإمارات ومجلس التعاون الخليجي “أمراً مرفوضاً تقف وراءه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا”. وجاءت هذه التصريحات، بعد زيارة استفزازية قام بها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لجزيرة أبوموسى في الحادي عشر من الشهر نفسه، وقبل ذلك كان قادة عسكريون إيرانيون قد هدّدوا بوقف الملاحة الدوليّة في مضيق هرمز، واعتبروا ذلك عملية سهلة مثل “شربة ماء”، كما هدّدوا بتوجيه ضربات لمنابع النفط في بلدان الخليج العربي المجاورة، في حال تعرّض المصالح الإيرانية للخطر. والواضح أن هذا الاستقواء الإيراني في منطقة الخليج العربي يعكس في جانب منه تيهاً وفخراً إيرانياً واستعراضاً للقوة واستغلالاً لمعطيات البيئة الإقليمية والدولية، كما إنه محاولة للتغطية وإبعاد الأنظار عن جوانب ضعف ومشكلات داخلية كثيرة. وسنركز في تحليلنا على الجانب الأول كونه يتعلق أساساً بعالمنا العربي، حيث أظهرت الدولة الإيرانية براعة في استغلال الظرف الإقليمي والدولي الراهن وحاولت قدر استطاعتها تطويع أو الاستفادة من التغيرات والاضطرابات الحاصلة في المنطقة العربية، حيث قامت بتوجيه سياساتها وإعلامها وتحريك أتباعها في الدول التي تمر بمرحلة انعدام وزن من أجل استمرار الفوضى في تلك الدول إلى أطول فترة ممكنة وكذلك لتوتير الأجواء بين الدول العربية من أجل إضعافها جميعاً. وبعيداً عن التهديدات الإسرائيلية بشن حرب ضد إيران وتصريحات القادة الإسرائيليين التي شغلت اهتمام الكثيرين، تعلم طهران جيداً أنها بعيدة عن تلك الحرب وأن تلك التصريحات تأتي ضمن اتفاق ضمني بين ما يمكن تسميته محور الشر الجديد والمكون من أمريكا - إيران - إسرائيل وهو اتفاق على تفتيت العالم العربي إلى دويلات صغيرة على أسس طائفية وعرقية وجغرافية وفقاً لمقتضيات كل دولة وهو الأمر الذي حصل بالفعل في السودان بتقسيمه إلى دولتين وعلى وشك الحدوث في كل من ليبيا والعراق ومن غير مستبعد أن يحدث في كل من مصر وسوريا واليمن. تعلم إيران جيداً أنها باتت ركيزة أساسية لتحقيق الفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط والتي تسعى واشنطن لتحقيقها منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر وأعلنتها وزير الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس عام 2005، وقد وجدت الدول الثلاث الفرصة مهيأة تماماً بعد ما حدث من تغيرات جذرية في الكثير من الدول العربية بدءاً بتونس مروراً بمصر وليبيا واليمن وسوريا، فانقضت واشنطن وحليفتها الدائمة إسرائيل والمرحلية إيران لاستغلال هذه التغيرات -إن لم تكن شاركت في حدوثها بالفعل- لتقسيم العالم العربي لدويلات صغيرة يسهل التحكم فيها وبما يحول دون ظهور قوة عربية يمكن أن تشكل تهديداً ولو مؤقتاً أو جزئياً. من المعروف أن الغرب يتعلم الدروس جيداً ولا ينسى بسرعة كما هو حال العالم العربي، لذا فإن المواقف العربية القوية الموحدة على مر التاريخ على ندرتها إلا أنها ماثلة دائماً في أذهان الغرب الذي يسعى حثيثاً لعدم تكرارها مستقبلاً وذلك بانتزاع مصادر القوة في العالم العربي وتطويعها لصالحه وإخضاعها لرغباته. ومن المعروف أيضاً أن أبرز مصادر قوة العالم العربي بعد موقعه الجيواستراتيجي المتميز هو النفط، فكانت المحاولات الغربية الدؤوبة للسيطرة على هذا المورد المهم للمنتجين والمستهلكين معاً، فبدأت واشنطن مع حلفائها بالعراق لعزله عن عالمه العربي وتفتيته وإضعافه إلى أقصى حد ممكن ونجحوا في ذلك، وقد تم اختيار هذا البلد العربي بعناية فائقة كونه كان متفوقاً في ميزان القوى التقليدي وغير التقليدي مقارنة بجيرانه، ومن ثم كان عامل تهديد لجميع تلك الدول بعد أن نجح الغرب في تحويله من قوة مضافة للعرب إلى خصم من رصيدهم عبر جره لمشكلات وأزمات وحروب متوالية. لم يكتفِ الغرب بذلك؛ بل نجح في تسويق الخطر العراقي من أجل فرض معادلة “الأمن مقابل النفط”، أي أن واشنطن تحديداً وكذلك الحلفاء الأوروبيين يتكفلون بحماية الأمن في منطقة الخليج مقابل ضمان وصول النفط إلى تلك الدول بأسعار مناسبة. وعندما وجد الغرب أن تلك المعادلة غير كافية سواء لتحقيق مصالحه أو لضمان أمن الحليف الإسرائيلي وتفوقه وخاصة بعد ما سمي بثورات الربيع العربي، سعت واشنطن بكل قوة ممكنة وبمساعدة من إسرائيل وإيران إلى إبعاد هذه الثورات عن أهدافها وإفراغها من مضمونها الحقيقي بما يحقق مصالح هذه الأطراف الثلاثة وذلك بمحاولة تفتيت وتقسيم العالم العربي إلى دويلات صغيرة. وإذا كان اختيار أمريكا لإسرائيل أمراً مفهوماً للجميع، فإن اختيار إيران جاء بعد أن أثبتت طهران أنها بمثابة الشريك المثالي والحليف الاستراتيجي الذي يمكن أن تعتمد عليه دون إحداث ضجة أو بلبلة، كما حدث في أفغانستان وكذلك في العراق، مما كان له أكبر الأثر في استمرار الاعتماد على هذا الشريك الذي يمتلك أدوات كثيرة للمساعدة كما إنه خصم مشترك للعالم العربي، ومن ثم فإن إمكانات التفاهم معه كبيرة وفرص النجاح قائمة. وقد بدا أن هناك تسليماً وقبولاً من كل طرف من الأطراف الثلاثة على استخدام جميع الأدوات الممكنة لكل طرف لتحقيق الهدف النهائي المشترك لهم جميعاً، فالولايات المتحدة الأمريكية تظهر بمظهر المدافع عن حقوق الإنسان والديمقراطية والمتعاطف مع رغبات الشعوب في الإصلاح، وهي في حقيقة الأمر تستخدم المنظمات والنشطاء الحقوقيين لضرب الوحدة الوطنية وإحداث الفوضى وإدامة العنف والتوتر في تلك الدول، وقد وضح ذلك جلياً في كل من مصر ومملكة البحرين. أما إيران فهي تعمل على تحريك أدواتها لإثارة النعرات الطائفية والمحاولات الانقلابية على بعض الأنظمة الحاكمة كما حدث في مملكة البحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وكذلك الكويت، ولعل ما حدث مؤخراً من خلاف بين السعودية ومصر جرّاء محاولات المتظاهرين اقتحام السفارة والقنصليات السعودية في مصر يعد دليلاً على استمرار المساعي الإيرانية للوقيعة بين الدول العربية بعضها بعضاً. بينما تمارس إسرائيل دوراً من وراء الستار وتقدم دعماً متعدد الأوجه حسب الحالة والإمكانات، فهي تضغط للإبقاء على نظام بشار الأسد في سوريا، كما تقوم بدور في تأجيج الصراعات بين الدول العربية كما حدث مؤخراً بين دولتي السودان وجنوب السودان بعد أن نجحت في تقسيم الدولة السودانية في ظل سبات عربي عميق. والغريب أن أمر تقسيم العالم العربي لم يعد سراً أو خيالاً لكاتب أو مفكر؛ إنما هناك عشرات الوثائق والمخططات والسيناريوهات التي وضعت ونشرت في مواقع عدة وتحدث عنها مسؤولون في دول مثل مصر، ورغم ذلك يقف العرب مكتوفي الأيدي وكأنهم مرحبون لما يحاك ضدهم أو أنهم غير قادرين على مواجهته . فمن المعروف أن السياسات الاستعمارية لا تختلف في جوهرها، إنما تتغير أشكالها بتغير المراحل وبما يتناسب مع البيئة القائمة ولكنها بالنهاية تسعى للتحكم والسيطرة واستنزاف الثروات وحرمان الشعوب من خيرات بلدانهم سواء عبر الاحتلال العسكري أو الغزو الثقافي أو التبعية الاقتصادية وأخيراً عبر إبداع أمريكي يتمثل في الفوضى الخلاقة، وهو نموذج متطور من اتفاقية سايكس بيكو الموقعة عام 1916، وكانت تفاهماً سرياً بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأُولى. ويبدو أننا مقبلون على سايكس بيكو جديدة وسيكون تفاهماً سرياً أيضاً بين أمريكا وإسرائيل وإيران وللأسف بمباركة ومصادقة من شعوب عربية أو أجزاء من شعوب عربية لتفتيت العالم العربي وتقسيمه إلى دويلات صغيرة.