أجرى الحوار - ديفيد جنكنز:
ترجمة: أمين صالح
هذه هي الحلقة الثالثة من الحوار الذي أجراه ديفيد جنكنز، مع المخرج ثيو أنجيلوبولوس.
إن جزءاً من فتنة سينما أنجيلوبولوس تكمن في معرفتك بأن المشهد الاستثنائي واللافت، الذي تشاهده، كان في الواقع مرسوماً ومعداً للكاميرا. مشاهده باهرة، متألقة، تذكرنا بمشاهد من أفلام صامتة حققها مخرجون مثل: فريتز لانغ، جريفيث، فون شتروهايم. (أعلن أنجيلوبولوس عن اعجابه الشديد بفيلم ميشيل هزانافيشوس Michel Hazanavicius”الفنان” The Artist ، الذي به يوجّه تحية تقدير إلى السينما الصامتة).. يقول أنجيلوبولوس: “هذا الفيلم حرّك ذكرياتي. عندما شاهدت للمرة الأولى كلاسيكيات السينما الصامتة، عرفت أنني أريد أن أحقق أفلاماً”.
في الوقت الحاضر، من المستحيل تقريباً تخيّل أن يتوفر المال اللازم لإنجاز أعمال بالطرائق التي اعتاد عليها أنجيلوبولوس وأولئك المخرجون الكبار، خصوصاً مع اقتصاد منهار كما هو الحال في اليونان. لكن أنجيلوبولوس يصر على أنه لن يقع تحت إغواء التكنولوجيا، ولن يحاول تحويل الصور التي يولدها الكمبيوتر كوسيلة لغاية ما.
يقول أنجيلوبولوس “إذا اخترت الآن أن أصّور لقطة مماثلة للقطة موجودة في (تحديقة يوليسيس) في فيلمي الجديد، فسأصورها بالطريقة ذاتها تماماً. أنا لا أصنع أفلاماً فقط لكي أحاول أن أنجز شيئاً. التجربة هي التي تؤخذ بعين الاعتبار.. المعالجة. إنه عن كيفية صياغة المشهد. إنها ولادة لصورة تهمني”..
هذا يعني أن تقنية الفيلم ذي الأبعاد الثلاثة 3D هي غير واردة.. يرد أنجيلوبولوس ضاحكاً: “مثل هذه التقنية ليست مصنوعة لي. إن تصوري وفهمي لماهية السينما لا يمكن أن ينسجم مع هذا النهج أو الطريقة”.
أثر منهج أنجيلوبولوس
إن منهج أنجيلوبولوس الدقيق في صنع الصورة كان له تأثير واضح على العديد من المخرجين المعاصرين.. من بينهم التركي نوري بيلجي سيلان والإيطالي مايكل أنجلو فرامارتينو. كيف يشعر حين يشاهد فيلماً واقعاً تحت تأثير أسلوبه؟
يجيب أنجيلوبولوس قائلاً: “كل جيل يتأثر بالجيل الذي سبقه. إنها دائرة من إعادة المعالجة، من تسليم الأفكار عبر الزمن. لو شاهدت فيلماً يحتوي على لقطة مديدة دون قطع، أو فكرة مستمدة من أحد أفلامي، فسأتذكر بأنني تأثرت بدوري، ربما بلا وعي، بجيل من صانعي الأفلام الذين جاؤوا قبلي، والذين بدورهم سيتكوّن لديهم الشعور ذاته، والانطباع ذاته، حين يشاهدون أفلامي”.
رغم تداعي الاقتصاد في اليونان، إلا أن السينما اليونانية تعيش حالة جيدة في هذه اللحظة، مع ظهور مواهب شابة ملفتة، ممثلة في المخرج يورجوس لانثيموس والمخرجة أثينا راشيل.. يقول أنجيلوبولوس: “هناك جيل جديد من المخرجين في اليونان الذين خلقوا لغة جديدة، ولديهم أشياء يريدون التعبير عنها. إنها تجارب مختلفة جداً عن أفلام السينما اليونانية الجديدة في السبعينات. بعد كل هذه السنوات، من الجيد رؤية نموّ تلقائي آخر للنشاط الإبداعي”.
في حين يبدي حماساً تجاه السينما اليونانية، هو لا يرى كثيراً من الأمل في المستقبل السياسي للبلاد. في إحدى المقابلات التي أجريت معه، أثناء تحقيقه فيلم “خطوة اللقلق المعلقة” The Suspended Step of the Stork 1991 ، صرّح بأنه كان دائماً ينظر إلى السياسة بوصفها إيماناً، أما الآن فإنه يعتبرها مهنة. وهو يضيف قائلاً: “خدمة الناس هي وظيفة، وليست أيديولوجيا”.
استعادة البصيرة السياسية
مع تصدّر التدهور الاقتصادي في اليونان الصفحات الأولى من الجرائد، سألت أنجيلوبولوس إن كان يشعر بأن أفلامه قد استعادت البصيرة السياسية؟ أجاب قائلاً: “بطريقة غريبة، نعم أشعر بذلك، لكنني لا أعتقد، ولو للحظة، أن هذا أمر جيد. كل ما كان يبدو وقتذاك عبارة عن سلسلة من الاحتمالات الكئيبة بشأن مستقبلنا، أضحى الآن مؤكداً ومصدقاً عليه. أنا أنتسب إلى جيل كان يحسب أنه قادر على تغيير العالم. مع حلول العام 2000، انتهى الحلم”.
فيلمه التالي “البحر الآخر”، هو الفصل الختامي للثلاثية، وهو ينطلق من الواقع السياسي للحاضر، في اليونان وأرجاء أوروبا. الفيلم الأول من الثلاثية “المرج الباكي” يتعامل مع بناء وصيانة قرية محاذية للنهر في العام 1919. الفيلم الثاني من الثلاثية “غبار الزمن” عن مخرج سينمائي (وليم دافو) يستكشف أوروبا بحثاً عن ابنته المفقودة. وفي حين تدور أحداث الفيلمين في الماضي، يسكن فيلمه “البحر الآخر” في الحاضر والمستقبل. يقول أنجيلوبولوس “نهاية فيلم (غبار الزمن) هي أيضاً نهاية حلم. هذا الفيلم الجديد هو عن افتقاد الحلم في اللحظة الراهنة. أنا لا أعتقد بأن مشكلات الحاضر هي بالضرورة مشكلات مالية، بل هو الافتقار العام للقيم. الفيلم الجديد يتحدث عن أفق مغلق. بالنسبة للبلاد، إنه أشبه بجلوسنا جميعاً في غرفة انتظار مغلقة، وليس لدينا أي فكرة عما سيحدث حين ينفتح أخيراً ذلك الباب”.