بفكرةٍ بسيطة ولكن مدهشة، كانت الصور والرؤى تُستَدعى من خلال فكرة العمارة ونص المشاهدات المتوالية، التي قدّمتها وزارة الثقافة في معرض العمارة الدولي الثالث عشر الذي أقيم بمدينة فينيسيا في إيطاليا أواخر أغسطس الماضي. كانت المشاركة ضمن معرض “خلفية” تعتمد على تقديم صورة الأوطان ومعمار الشعوب بعيدًا عن الصياغات الإعلامية الجاهزة أو المشاع عن البلدان في التداولات الاجتماعية. ويكثف في مجاز الفضاء المرسوم حكاية كل موطن من خلال معماره وخلفياته التي تعددت وسائل التعبير عنها وطرق تصريف تفاصيلها.
تأتي هذه المشاركة للمرة الثانية، بعد أن حصدت البحرين في المرة الأولى جائزة الأسد الذهبي عن مشاركتها في بينالي فينيسيا الثاني عشر، حيث شاركت الوزارة في المعرض -الذي يستمر حتى 25 نوفمبر المقبل- اهتمامًا بمجاورة التجربة وحرصًا على الحضور البحريني في المحافل الدولية وتعميم الثقافة والمشاركة بنصّ المعمار لاعتباره الأسلوب الحضاري والثقافي لاجتذاب الآخر، وتوظيف المكان خارج الحدود الجغرافية للمنطقة.
لقد لاقى المعرض إعجاب وتواصل الجمهور من اختصاصيي ومحبي فن العمارة، ورصدته وسائل الإعلام العالمية والنقاد الذين تناقلوا ردود الفعل الإيجابية، مؤكدين أن المعمار البحريني ينفرد بلمسات استثنائية. وتمت تغطية الحدث والحضور البحريني في عدد كبير من الصحف والمجلات والدوريات العالمية الإيطالية والأوروبية العامة وتلك المختصة بالعمارة مشيدة بمستوى لمعرض وتنظيمه وفكرته وطريقة العرض فيه.
موازاة المرئي بالتصميم المعماري
لقد اتخذ المعرض شكلاً جماليًا، اعتمد على موازاة المرئي والصورة بالتصميم المعماري وتوظيف الفراغات التكوينية للمكان. التداخل ما بين تجويف الكتلة والجداريات، تمكّن من فتح مساحة واسعة، كان المعمار فيها محبوكًا بصورة عفوية وهادئة تقترب فكرتها من روح البحر واتساع الفضاء، حيث المكان مجهز بمناطق جلوس فردية تتخذ رمزية الهضاب أو وجه الكتاب المقلوب أو ربما حتى سيرياليات ورمزيات الطوبوغرافيا الهادئة والحميمية التي تميز الموقع الجغرافي البحريني. وتسمح هذه التكوينات الأنيقة بفتح مسارات مشاهدة لا تقيّد الزائر بالنظر إلى ناحية معينة. ويجسّد الديكور مشهدًا مرئيًا مفتوحًا يسترد فكرة التطلع إلى اللا جهة أو إلى كل الجهات مما يمنح المكان حيوية وفرصة التحرك بعفوية.
أما الجداريات فبتعددها وتقاربها تستكمل مشاهدات مرئية عديدة بحرينية تذهب إلى البيئة، النمو العمراني، الحراك السكاني والبنائيات المختلفة. إذ ينعكس الضوء الخفيف بمجموعة صور ومشاهد متلفزة على هذه الجداريات التي تتخذ شكل النافذة بتصميم عمراني عتيق وأصيل، فيبدو للعابر مشيًا أو الجالس قبالة الأشياء وكأن هذه النافذة تفضي إلى منطقة أخرى خارج العالم أو المنطقة. وتتوقف عندها مشاهدات بحرينية تسترد طبيعة الحياة وعفويتها. وتمرّ فيها مشاهدات العديد من الأمكنة والمباني، والناس. وتستعرض هذه المجموعات المرئية مسار الإنسان البحريني في توازٍ مع العمران، من خلال عرض رئيسي وثابت يعاين المكان البحريني ويجرد سلوك الإنسان فيه.
كما يشمل الجناح تنفيذ مجموعة من أربعة عروض حية للعديد من المشاهد البحرينية التي تقتبس المرأى والصورة والحركة عبر مشاهدات تلفزيونية. وتطرح فكرة المرور بالثقافات المكانية والبيئة الحضرية المتاحة.
المعرض ينقل بحرين اليوم
وزيرة الثقافة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة ذكرت في مقدمة الكتيب الخاص بالفعالية: “هذه المشاركة تنقل للملتقى بحرين اليوم بخلفيتها الواقعية وجذورها الضاربة في عمق التاريخ حيث نعمل من خلال الثقافة والهندسة على جمعها وبلورتها ووضعها في موقعها من العالم كما هي الآن، بما يدور في شوارعها وما تشهده مدنها وقراها وما يعيشه شعبها .. صغاره وكباره، من يأتي من أقصى اليمين ومن يحمل أفكار اليسار فجميعهم يشكلون ملامح الوطن الذي أُحب ولن يكتمل المشهد من دون هذه الخلفية. لذا لا بد لنا من توثيق هذه الفترة من الكتابة عنها من رصدها.. من تصويرها .. فوحده التوثيق من سيحفظ لنا تاريخ وطن”.
فكرة البيئة الحضرية
وقد أشرفت على هذا العرض رئيسة المشروعات الهندسية بوزارة الثقافة المهندسة نورا السايح، التي أكدت أن معرض “خلفية” كان يركز على إحاطة الصورة وإبراز الحقيقة التي شوّهتها أو تجاهلتها وسائل الإعلام، قائلةً: “المعرض يقترب من فكرة التطوير المتزايد للمرأى وفكرة البيئة الحضرية والنمو العمراني الذي صار ينمو عن بعد من خلال استدعاءات الإعلام المتكررة والمروجة للحدث”.
وأوضحت السايح أن مشاركة البحرين في النسخة السابقة من المعرض جسّدت المشاركة الخليجية الأولى في مثل هذا المحفل المرموق، مضيفة: “استطعنا هذا العام تحسس أثر مشاركتنا الماضية، إذ تبعتنا الكويت لهذا العام”.
وتابعت: “أرى أنه من المهم أن نشارك لأن لدينا ما يمكننا قوله والمشاركة به في المناظرات المعمارية العالمية للتعريف بأنفسنا بعيداً عن ما يقوله الآخرون. نحن محظوظون بالعيش في منطقة تعايش متغيرات جذرية ومهمة في التطوير الحضري الذي يجب أن نعرّف العالم به”.
كما أشارت إلى أن البعض قد يرى هذه التجربة كنوع من الترويج لسوق العقار المحلي والعمارة الوطنية، لكن الأمر على المدى الأبعد يبرز القدرة على النقد الذاتي ومراجعة الإنجازات المعمارية البحرينية التي نسعى لتطويرها، لافتة الانتباه إلى أن العديد من الدول تملك مقومات عمرانية وطبيعية مدهشة التي يجب الاشتغال عليها وحماية الإرث المعماري المحلي فيها.
نافذة تصل الغرب بالبحرين
وحول المعرض، أشار مخرج العرض الفني في بينالي فينيسيا محمد بوعلي إلى أن جناح مملكة البحرين كان نافذة مفتوحة تصل الغرب بالبحرين وتعرّف بمناطق متعددة، مضيفا: “شكّل العرض بثًا مباشرًا لخمس جهات مختلفة يشاهد الزوّار من خلاله مناظر بحرينية مختلفة، سواء أكانت مناظرة عمرانية، بحرية، مدنية، سلوكية، بيئية وغيرها”.
وأردف: “هذا المكان الذي كان بداخل فينيسيا لم يكن مغلقًا، بل جسّد فعليًا مجموعة قراءات واضحة ترى كيف يتعامل الناس في حياتهم الطبيعية مع البحر، وكيفية قضاء أوقاتهم وتأثير العوامل المناخية على تصرفات الناس منذ الشروق وحتى الغروب”.
وأوضح أن الفضاء المتاح يفتح الرؤية إلى كل الجهات من شرق وغرب وشمال وجنوب، وبإمكان الزوار فيه أن يعيشوا إحساس التغير في الضوء والوقت والمناخ.