بقلم - عبدالله الذوادي:
يوم الخميس 16 أغسطس الماضي، كنت في زيارة لوزير الداخلية الفريق الركن الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة،
لتقديم نسختين من كتابي “رحلة العمر” و«شيء من التراث البحريني” ورغم مشاغله الكثيرة ومسؤولياته الجسام، إلا أن معاليه خصني بأكثر من ثلاثة أرباع الساعة للحديث عن الكتابين، وهذه هي المرة الثانية التي يستقبلني فيها معاليه بمكتبه بوزارة الداخلية، المرة الأولى كانت العام 2005 حين قدمت له كتابي، “ملك القلوب”.
يحظى الكُتَّابُ والمؤرخين باهتمام الشيخ راشد بن عبدالله نظراً لشغفه بالثقافة والتاريخ، وحرصه على قراءة كل إصدارات أبناء وطنه، وهو من يتمتع بثقافة عالية يتضح ذلك من خطاباته الرزينة، ومتابعته لكل ما يكتب بدليل أنني كتبت موضوعاً في أخبار الخليج في العدد 9455 الأربعاء 11 فبراير 2004 تحت عنوان “مصنع الرجال” بمناسبة يوم قوة دفاع البحرين الذي يصادف 15 فبراير من كل عام، وفي مساء يوم نشر الموضوع حوالي الساعة السابعة و النصف اتصل بي رياض عيد عبدالله وأخبرني بأن رئيس هيئة الأركان يريد محادثتك، فأثار ذلك استغرابي مشوباً بالخوف، ولكن ما أن حدثني حتى ذهب الروع عني ، فقد تفضل معاليه بتقديم الشكر والتقدير لما كتبته في موضوعي عن قوة دفاع البحرين درع الوطن الغالي وأثنى على ما تضمنه موضوعي، وهذا دليل على اهتمامه بما يكتب في صحافتنا المحلية ومتابعته لكافة المواضيع.
أسوق هذا الدليل وهذه المقدمة ليكونا مدخلاً لموضوع قلعة المنامة في التاريخ، هذه القلعة الشامخة أصبحت الآن مقراً لوزارة الداخلية لمملكة البحرين العزيزة على قلوبنا جميعاً.
القلعة كانت مصيفاً للشيخ عيسى بن على
لم تكن القلعة في الماضي كما هي عليه الآن، فقد كان المبنى الرئيسي يقع في فضاء مفتوح تحيطه من جهة الجنوب بساتين النخيل، وكان مصيفاً للشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين الراحل طيب الله ثراه والد الأسرة الخليفية، كما أخبرني الشيخ راشد بن عبدالله لدى زيارتي الأخيرة لمعاليه، بأن اللواء الركن المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، طلب من معاليه إذا عزم على إعادة بناء القلعة أن يبقي إحدى الغرف التي ولد فيها جده الشيخ عبدالله بن عيسى بن علي آل خليفة، فأوفى معاليه بالوعد الذي قطعه على نفسه بإبقاء تلك الغرفة على ما هي عليه.
67 عاماً من الذاكرة
قلعة المنامة أو وزارة الداخلية أعادت لي الذاكرة عندما هممت بالدخول إلى مبناها الرئيس الذي يقع فيه مكتب الوزير، لقد عادت بي 67 عاماً إلى الوراء، فقد كنت في الخامسة من عمري عندما تزوجت والدتي بالعم راشد بن عبدالله الدوسري الذي كان يسكن ضمن معظم شرطة البحرين في المنطقة الواقعة غربي القلعة، وكانت جميع بيوت الشرطة مبنية من سعف النخيل، كان يقع شمال بيت عمي بيت الشرطي المرحوم أحمد المعيوف وشرقيه بيت جاسم السعدون، و جنوبه بيت الشرطي عبدالله “لا اذكر اسم والده” وغربيه بيت الشيخة لولوة بنت جبر آل خليفة وابنتها الشيخة فاطمة، و في بيتهما كانت سدرة تطرح ثمرها من (الكنار) اللذيذ خارج البيت، فنسارع لالتقاطه، وكانت كافة البيوت مبنية من سعف النخيل ما عدا بيت أديب البحرين المرحوم عبدالله بن علي الزايد الذي يتوسطه برج للحمام وبيت المرحوم حسن البلوشي، ويقع شرقي بيت عبدالله الزايد ملعب نادي الفردوسي المحاذي لمقر النادي الواقع على الجانب الشمالي من الشارع العام، أما في الزاوية الغربية الشمالية فكانت تقع منصة ركوب عمال بابكو في السيارات اللوري ( لستود بيكر) قبل وصول حافلات (سالم الخطر)، وتقع غربي حدود القلعة حوطة أبل ويفصلها عن القلعة شارع الشيخ حمد.
كنا نستمتع كل صباح بمشاهدة التدريبات للشرطة التي يشرف عليها الضباط الكبار أمثال المرحوم علوان أفندي البياتي وغيره من الضباط، كما كانت تقع غربي مبنى القلعة غرفة للفرقة الموسيقية للشرطة التي كانت تتدرب على العزف كل يوم على مدار السنة، كان رئيس أو قائد الشرطة وقتذاك الشيخ خليفة بن محمد آل خليفة الذي كان له شرف تأسيس الشرطة و توسيع مسؤولياتها، وكان أيضاً يتخذ مكتبه وسط القلعة، أما في الجهة الجنوبية فكانت البيوت المبنية لكبار الشرطة، حيث انتقل عمي إلى أحد تلك البيوت بعد ترقيته، وكان بجواره بيت المرحوم العريف يوسف القيص، وكان جزءاً من منزله سجن النساء التي كانت تشرف عليه زوجته وكان معظم نزيلاته -وهن قلة- من بنات الهوى و المخالفات للعرف الأخلاقي. وكان السجناء من الرجال يقيمون داخل القلعة وتحديداً في بعض أبراجها، وكان داخل القلعة مرابط الخيول وبركة سباحة كبيرة -كان عمي راشد يأخذنا ليلاً للسباحة في تلك البركة- وكان معظم السجناء في ذلك الوقت من اللصوص التي صدرت ضدهم أحكام جزائية وكان بعضهم يؤخذ إلى سوق الأربعاء للجلد ممن صدرت ضدهم أحكام بالجلد.
الاستمتاع
بالمهرجان السنوي للشرطة
كنا أثناء تواجدنا في مساكن الشرطة نستمتع كل عام بالمهرجان السنوي الذي تقيمه مديرية الشرطة في ساحة القلعة الخارجية الكبرى، وكانت الألعاب تتضمن شد الحبل، والقفز وسباق الجري و السباحة، كانت تحفر حفرة كبيرة في الساحة و تغطى بـ (الطرابيل) ثم تملأ بالماء ليجري فيها السباق و بعض الألعاب المائية ثم يتم استعراض الخيالة والجمال على نغمات عزف الفرقة الموسيقية وينتهي ذلك الاستعراض مع مغيب الشمس بعد أن يستمر لأكثر من أربع ساعات و يحضره جمهور غفير من كافة أنحاء البحرين للاستمتاع بذلك المهرجان الجميل. أما أيام الأحد من كل أسبوع فكان يجري الاستعراض العسكري للشرطة على نغمات الموسيقى تتقدمهم فرقة الخيالة من مبنى القلعة حتى بيت (الباليوز) المعتمد البريطاني بلجريف.
بلجريف يشرف على الاستعراض
كان المعتمد البريطاني بلجريف يشارك في تلك الفعاليات، وكنا نراه يركب فرسه بمحاذاة حارسه، الشرطي المدعو بلال، كما قلت كانت القلعة بمبناها تقع في فضاء كبير لا يوجد حولها غير البساتين من جهة الجنوب، وكان يقع غربها بيت الشيخة نيلة بنت أحمد آل خليفة الذي أزيل بعد بدء النهضة العمرانية في عهد المغفور له بإذن الله تعالى صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين آنذاك، وقد جرى تسوير القلعة كما هو عليه الحال الآن من ناحية الوضع الجغرافي وبنيت في الجهة الغربية بيوت للشرطة، كان بيت العم راشد أحدها، ثم أزيلت تلك البيوت وأعطى الشرطة ومن ضمنهم العم راشد بيوتاً في مدينة عيسى، لتتحول تلك المساحات الشاسعة إلى الدوائر التابعة لوزارة الداخلية بعد الاستقلال مثل إدارة المرور وساحات فحص السيارات وغيرها، لكن هذه الإدارة أخرجت من وزارة الداخلية ليبنى لها مبناها الحالي بين مدينة عيسى والرفاع.
الصورة القديمة للقلعة تغيرت
طافت بي الذاكرة وأنا في طريقي لمكتب الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، وقد تغيرت صورة القلعة وساحاتها إلى مرافق وساحات و نوافير، غير أن الشكل العام للمبنى الرئيس بقي على ما هو عليه كَمَعْلَمٍ حضاري، سكنه جد الأسرة الخليفية الذي لم يدر في خلده أن يصبح مقراً لأحفاده من الشيخ خليفة بن محمد آل خليفة وصاحب السمو الشيخ محمد بن سلمان آل خليفة والشيخ محمد بن خليفة آل خليفة (بو فواز)، الذي أحدث تغييرات جذرية على موقع القلعة التي سلمها فيما بعد لخليفته الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، الذي شهدت القلعة وكافة مراكز الشرطة في المملكة منذ تسلمه وزارة الداخلية، طفرة كبيرة في الهيكل العمراني المتميز بجمال العمارة المستوحى من التراث المعماري للبحرين.
القلعة شهدت تطوراً
في عهد الشيخ سلمان بن حمد
شهدت منطقة القلعة في عهد المغفور له بإذن الله تعالى صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفه حاكم البحرين تطوراً عمرانياً كبيراً، فالأرض الفضاء الواقعة غربي القلعة وشارع الشيخ حمد شهدت تطوراً عمرانياً، بعد بيع مخطط تلك المنطقة على أفراد الشرطة وموظفي الحكومة بأقساط شهرية وبأسعار متدنية جداً لمساعدتهم في بناء مساكن لهم، كما جرى بناء إدارة الصحة ومبنى وزارة الصحة الحالي ومستشفى السلمانية ومدرسة السلمانية، تيمناً باسم صاحب العظمة الحاكم، وشُقَّ شارع السلمانية من حديقة الأندلس شرقاً حتى مستشفى الأمراض العصبية غرباً ليلتقي بشارع الشيخ سلمان الذي يصل حتى مدينة عوالي، لكن رمز المنطقة -قلعة المنامة- بقى شامخاً عملاقاً يحكي ذكريات الماضي من عهد عيسى بن علي آل خليفة إلى عهد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، وقد أوتمن عليه حالياً الفريق الركن الشيخ راشد بن عبدالله، وهو خير من يؤتمن على هذا الصرح التاريخي المجيد.
ولا يسعني هنا سوى أن أتقدم بخالص الشكر والعرفان إلى الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، الذي تشرفت بمقابلته في مكتبه العامر، وأسعدني بتواضعه واحترامه وحثه لي على مواصلة الكتابة والتأليف، وأتاح لي دخول هذا الصرح العتيد أعني قلعة المنامة ككاتب لا كسجين والعياذ بالله، لأستذكر خلال الزيارة ما شاهدته داخل وخارج القلعة أيام طفولتي منذ ما يزيد على 67 عاماً، فشكراً، بوعبدالله معالي الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، وأعانك الله على تحمل المسؤوليات الجسام المنوطة بها وزارتكم لاستتباب الأمن لكافة المواطنين والمقيمين.