بقلم جميل بن محمد علي حميدان ?
منذ بدء الخليقة والإنسان يعرف بالفطرة كيف يجني قوت يومه، بل يصف ويعلم أبناءه تفاصيل مهنته ليواصلوا ما بدأه ويطوروا ما ابتدعه، ووضع توصيف ومعايير للمهن ليس بالأمر الجديد في البحرين، فالبحرين منذ نشأتها وأهلها يعملون في المهن المختلفة سواء في البر أو البحر وكل فرد يعرف واجباته ومهامه ويعرف جيداً كيف يؤدي وظيفته على أكمل وجه بل ويسعى لتطويرها لتدر عليه الرزق الوفير.
وحب البحرينيين للعمل الجاد ورغبتهم في العيش بعزة وكرامة، جعلهم يتخذون من البحر ملجأ لأهل هذه الجزيرة الصغيرة للحصول على رزقهم، فكانوا يمتهنون صيد الأسماك، وصناعة السفن، واستخراج اللؤلؤ بجدارة عالية وإتقان، وهذا الأمر ليس بالسهولة التي يتوقعها البعض، فكل سفينة لها حجمها ومستلزماتها وطاقم متخصص في دوره ومسؤولياته، فكان هناك النوخذة والغيص والسيب والنهام وغيرها من الوظائف التخصصية.
ولشدة تمسك البحرينيين بمهنهم وحرفهم، فقد اتخذوها أسماء لعائلاتهم وسجلت في السجلات الرسمية كألقاب رسمية لهم مثل: “القلاف، النجار، الصفار، البناي، النهام، الطواش، الحداد ... وغيرها”.
ونتيجة لإخلاص البحرينيين وإتقانهم لهذه المهن فقد نتج عنه الكثير من الصفات التي لازال يتحلى بها شعب البحرين منذ القدم حتى يومنا هذا كالصبر والتجلد والشجاعة وروح التعاون.
وكما هو معروف بأن البحرين من أوائل الدول العربية التي أولت اهتماماً بالغاً بالتوصيف والمعايير المهنية دون أن يكون هناك مسمى رسمي لذلك، فبعد اكتشاف النفط في البحرين عام 1932م بدأ عصر تغير المهن والوظائف، وأصبح العامل البحريني شغوفاً بصقل وتطوير مهاراته لتتلاءم مع احتياجات ووظائف العصر الجديد والمهن المتعددة والجديدة على المجتمع في تلك الفترة، حيث شهدت تلك الحقبة دخول المهن والخدمات الصحية والتعليمية بصورة منظمة.
ومن هنا جاءت أهمية إنشاء مشروع المعايير المهنية في مملكة البحرين أسوة بالدول المتقدمة، ويأتي هذا المشروع الجديد في ظل النهضة المباركة وفي رحاب المشروع الإصلاحي الشامل لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عاهل البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه، وعلى النحو الذي يتكامل مع المشروعات والمبادرات الحكومية المتميزة التي يرعاها صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، رئيس الوزراء الموقر، حفظه الله، وقد انطلق هذا المشروع الرائد مواكباً لمشروع إصلاح سوق العمل الرائد في البحرين بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد الأمين، رئيس مجلس التنمية الاقتصادية.
كما يأتي مشروعنا ترجمة عملية لتنفيذ خطط لجنة إصلاح التعليم والتدريب برئاسة سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، نائب رئيس مجلس الوزراء، التي تهدف إلى وضع الاستراتيجيات والخطط مع الوزراء المعنيين لردم هذه الفجوة التي ولدت آثاراً اقتصادية واجتماعية وتقنية سلبية، وكانت سبباً في الاعتماد المتزايد على الكوادر الأجنبية الماهرة وغير الماهرة.
وقد ظهر التصنيف المهني العربي في عام 1988م، ولما لدول الخليج من خصوصية فقد أصدرت في عام 1993م الدليل الخليجي الموحد للتصنيف والتوصيف المهني.
وبعد سنوات من انبثاق النهضة تغيرت ملامح سوق العمل وأصبحت المنافسة شديدة بين العامل المواطن والعامل الوافد وتغيرت متطلبات أصحاب الأعمال والشركات وبرزت على السطح فجوة المواءمة بين مخرجات التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل وأصبحت ظاهرة عامة في دول مجلس التعاون، ولم تعد شأناً فنياً يخص الفنيين المعنيين بالتعليم والتدريب وأسواق العمل فحسب، بل أصبحت موضع اهتمام الساسة على أعلى المستويات.
وساعد في اتساع هذه الفجوة على صعيد دول مجلس التعاون الخليجي غياب التصانيف المهنية المعيارية وعدم وجود الكفايات والمهارات والمعارف الواجب توافرها في شاغلي الوظائف.
ومن خلال هذا الواقع قامت وزارة العمل والهيئات الحكومية ذات العلاقة بوضع استراتيجيات وخطط تحولت لمشاريع على أرض الواقع لتلبية احتياجات سوق العمل والمجتمع بصورة عامة. وهذه الاستراتيجيات امتدت إلى إنشاء منظومة للمؤهلات والمعايير المهنية الوطنية وذلك لوضع التصانيف المهنية وتطوير القائم منها، وجاء ذلك من خلال التعاون مع الهيئة الاسكتلندية للمؤهلات وشركة استشارية ألمانية تملك الخبرة الواسعة في تطوير المعايير المهنية في الوطن العربي ولها تجارب ناجحة على مستوى العالم.
وتعتمد هذه المشاريع على ثلاثة محاور، أولها منظومة المؤهلات الوطنية التي قام بإنشائها صندوق العمل “تمكين” وتباشر تطويرها هيئة ضمان جودة التعليم والتدريب، وثانيها مشروع المعايير المهنية، وثالثها محور الاختبارات المهنية، الذين تباشر وزارة العمل في تنفيذها.
والمعايير المهنية التي نتحدث عنها “هي وصف دقيق وواضح للكفايات والمهارات والمعارف الواجب توافرها لدى شاغل العمل لإنجاز مهام العمل بإتقان، وما يحدد المعيار بوضوح هو نتاجات الأداء المتقن”.
ومن هذا المنطلق، جاء مشروع المعايير المهنية، وفعلاً، ها نحن نشهد ولادة مشروع المعايير المهنية الذي باشرت في تنفيذه وزارة العمل مؤخراً، حيث سيعتمد المشروع في إنشاء المعايير المهنية على عقد ورش تحليل مهني يشارك فيها عمال يمارسون العمل المهني في سوق العمل، ويقومون بحصر مهام العمل وواجبات العامل، ويدير هذه الورش ((ميسر)) أو مدير ورشة والذي تنحصر مهمته في تلخيص وتوثيق ما يتم التوصل والاتفاق عليه من قبل العاملين الممارسين المشاركين في الورشة (العمال الممارسين ومقارنته بالمعاير النظرية المعدة سلفاً). وتكون النتيجة التوصل إلى مخطط الكفايات المهنية بشكل أكثر واقعية. ومن ثم يتابع العمل في حصر خطوات العمل، وحصر ما تحتاجه كل خطوة من معارف متصلة بالأدوات والأجهزة والمعدات والمواد وأساليب العمل ومقارنتها بالمعايير العالمية لكل مهنة ومستوى، وربطها بمنظومة المؤهلات الوطنية بالتعاون مع هيئة ضمان جودة التعليم والتدريب، وإنشاء الخطوط العامة للتدريب والتعليم لكل مهنة.
وبذلك تمثل المعايير المهنية الضوابط التي تحكم عمليات إعداد القوى العاملة وتأهيلها وتشغيلها وتنقلها، ومن هنا تبرز ضرورتها في سياق التنظيم وتطوير الإنتاجية.
وستكون انعكاسات وفوائد إنشاء المعايير المهنية على المجتمع وسوق العمل السلم المتحرك للوصول إلى سوق عمل منتج وعادل لجميع الأطراف. فقد يتوقع بعض أصحاب العمل سقفاً مرتفعاً لمدى المهارات الواجب توافرها لدى شاغل العمل عند الانتقاء والتوظيف ولذلك تحدد المعايير المهنية سقف التوقعات وتوفر بذلك مرجعاً أساسياً لتقييم ما يتوفر لدى الفرد من مهارات لتكون المعايير المهنية أساساً موضوعياً لانتقاء العاملين من بين المتقدمين وتوظيفهم، كما ستكون المعايير ركيزة أساسية لتحسين جودة المنتجات والخدمات المقدمة من قبل الشركات والمؤسسات وستقلل من كلفة التوظيف وتخلق مجالاً أكثر استقراراً.
ويستطيع العامل بنفسه وكذلك مسؤول الموارد البشرية أو التدريب تحديد الاحتياجات التدريبية النوعية للعاملين بمقارنة المهارات المتوفرة لدى العامل بالمعايير المهنية ليصل إلى تغطية هذه الاحتياجات سواء عن طريق التدريب المنظم أو غير المنظم أو عن طريق التعلم الذاتي، كما يتيح للموظف المعرفة التامة بمكامن التطوير والاحتراف التي من الممكن أن يصل إليها، مما ينعكس بصورة إيجابية على عملية التطور الوظيفي، ناهيك عن زيادة الرضا الوظيفي وتحسين الرواتب والمنافسة العادلة مع العمالة الأجنبية على الوظائف المهارية وسهولة انتقال العامل من وظيفة إلى أخرى.
وبعد اعتماد المعايير المهنية كمرجع أساسي في تصميم الاختبارات المهنية وإصدار شهادات المستوى التي يتم في ضوئها إصدار رخصة بمزاولة العمل المهني سواء بأجر أم بالتشغيل الذاتي، سنضمن التحاق قوى عاملة وطنية مؤهلة بسوق العمل وستقل الحاجة إلى العمالة الوافدة غير المؤهلة بما يسهم في ضمان تقديم الخدمة المهنية للمجتمع بجودة عالية. والمحصلة لذلك هو توفير الحماية لكل من أصحاب العمل والعاملين والمجتمع ككل.
ونعلم جيداً بأن أسواق العمل تتأثر بالتطورات التقنية في أساليب العمل والإنتاج، لذلك تتغير متطلباتها النوعية الواجب توافرها لدى القوى العاملة، فاحتياجاتها النوعية بذلك متغيرة وغير ثابتة. ويؤدي هذا التغير إلى ضرورة إعادة النظر في المعايير المهنية بصفة دورية وتحديثها لضمان مواكبتها واستيعابها للتغيرات التقنية وما تفرضه من تغير نوعي في مضامين الأعمال والذي ينعكس على الكفايات الواجب توافرها لدى العاملين.
ولذلك، فإننا في هذا المشروع سوف نعمل على إنشاء فريق وطني وإدارة خاصة تعنى بآلية إعداد المعايير المهنية بحيث يتم تدريبهم من قبل الفريق الألماني، وإيلاء تطويرها وآلية تحديثها العناية اللازمة لضمان استمرارية مواكبتها وتلبيتها لمتطلبات أسواق العمل المتغيرة.
وهذه المشاريع والاهتمام بها ليس مقتصراً على مملكة البحرين فقط، ففي كندا مثلاً اتفق الكنديون على تشكيل مجموعات (فرق صناعية)، وتم تكليفها بإعداد معايير (مستويات المهارة)، وفي عام 2000م كان هناك 30 مجلساً قطاعياً فاعلاً. وتضم هذه المجالس ممثلين عن أصحاب العمل ومنظمات العمال ودوائر حكومية فدرالية والحكومات المحلية وهيئات التعليم.
وفي الولايات المتحدة تم إعداد إطار وطني لمعايير (مستويات) المهارات المهنية بموجب تشريع اعتمد عام 1994م، ويهدف هذا التشريع إلى إنشاء مجلس وطني لمعايير (مستويات) المهارة ليلعب دور الوسيط في تطوير وتبني منظومة اختيارية (مستويات) المهارة وتقييم ومنح شهادات عند تحقيق هذه المستويات. وتم ذلك عبر لجان قطاعية تعمل معاً لتطوير معايير (مستويات) المهارة لتغطي 15 قطاعاً.
أما في ألمانيا فيعمل الشركاء الاجتماعيون من منظمات أصحاب العمل ومنظمات العمال معاً في تطوير المعايير المهنية وتنفيذ الاختبارات المهنية وإصدار الشهادات، ويتركز دور الحكومة في الدور التشريعي والمساهمة في التمويل.
وفي اليابان تتم معظم نشاطات التدريب والتأهيل في مواقع العمل نفسها باعتبار ذلك التزاماً بتأمين التشغيل مدى الحياة.
وتقوم وزارة العمل في اليابان بتشجيع وتدريب وترخيص العاملين في ثلاث مستويات من مستويات العمل الأساسية هي: مساعد مهني، ومهني، ومهني رئيس. كما تقوم وزارة العمل اليابانية بتطوير معايير التدريب والتأهيل بالتشاور مع المجلس المركزي لتنمية الموارد البشرية، وهو مجلس ثلاثي التمثيل يضم ممثلين عن منظمات أصحاب العمل ومنظمات العمال ومؤسسات التعليم والتدريب. ويشكل هذا المجلس لجان خبراء لتطوير المعايير المهنية ومعايير التقييم.
وفي ماليزيا تمثل المعايير المهنية (مستويات المهارة) عنصراً مركزياً في استراتيجية ماليزيا الحالية التي تستهدف جعل الاقتصاد الماليزي اقتصاداً صناعياً متقدماً بحلول عام 2020م، حيث يقوم مجلس التدريب المهني الذي أسس في عام 1989م بتطوير منظومة المعايير المهنية الوطنية ومنح الشهادات. كما ويعمل المجلس عبر لجان قطاعية تضم عاملين وخبراء في المهنة، تقوم بتحديد أولويات المهن الواجب إعداد معايير مهنية لها ضمن كل قطاع، ومن ثم تطوير المعايير المهنية لهذه المهن ذات الأولوية. ويقوم المجلس بالإشراف على تنفيذ الاختبارات وإصدار الشهادات.
وهناك جهود حثيثة تبذل في دول مجلس التعاون الخليجي لتطوير المعايير المهنية الوطنية (مستويات المهارة). وحيث إن عملية الإعداد مكلفة على المستوى الوطني وتحتاج إلى خبرات متخصصة، وتفادياً لتكرار عملية الإعداد في كل بلد بشكل منفرد، فقد اتفق وزراء العمل الخليجيون على الاستفادة من الجهود التي بذلت والنتائج التي تحققت ومن ثم نشرها واستخدامها في دول مجلس التعاون الخليجي، وفي هذا توفير للوقت والجهد والموارد.
وفي الختام أود أن أؤكد أن دور هذا المشروع الحيوي لا يقف عند حدود وزارة العمل بل يتعداه للدخول في مناهج التعليم الأساسي والأكاديمي بما يضمن تقليل فجوة المهارات المطلوبة لسوق العمل وسوف يكون الوتد الرئيس لعملية التدريب المهني في وطننا الحبيب، كما سيوفر هذا المشروع الأرضية الصلبة لجذب الاستثمارات العالمية مما سيخلق وظائف نوعية ذات مردود اقتصادي مقبول اجتماعياً ويوفر العيش الكريم للعامل البحريني، ولن يتم ذلك بدون توافر الإرادة والجهد المشترك للقطاعين العام والخاص في مملكتنا الحبيبة لرسم طريق المستقبل بكل ثقة وثبات.
? وزيــر العمــل