بقلم - أحمد جاسم:
لا يُلام نقادُ المسرح في البحرين إذا قرروا العزوف عن مواصلة النقد المسرحي للعروض المسرحية المحلية، فالضعف البيّن في العروض البحرينية لا يختلف فيه اثنان، لكن إذا كان هناك ثمة بارقة أمل فعلى المُحبط أن يتمسك بها ويحتفي بجمالها الأولي ويزيدها رونقاً وجمالاً من فيض روحه وصدق أفكاره.
ففي اللحظة التي تراجع فيها المسرحيون عن الخشبة لم نشهد من آبائنا النقاد وأستاذتنا تعزيراً وتوبيخاً حتى يرجع الولد العاق لرشده، إنما انشغل الجميع وتجاهلوا تردّي الحركة المسرحية وجعلوها تمرض وتتوجه نحو الموت ببطء.
أقول هذا الكلام وفي نفسي كثير من التساؤلات حول هذه الظاهرة الخطيرة في ترك الساحة المسرحية بلا توجيه نقدي ولا تعليم ولا إرشاد، فلقد شهدنا حراكاً نقدياً غاية في الروعة لمسرح الثمانينات والتسعينات جعلتنا نتتلمذ عليها فكرياً وروحياً، بل إني شخصياً تربيت على الكتابات النقدية المسرحية وكونت لدي ثيمة وصورة فنية كان لها الأثر الكبير في عملي بالإخراج المسرحي.
فقه اللعبة المسرحية
كانت كتابات يوسف الحمدان وإبراهيم غلوم وعبدالله السعداوي وعبدالله خليفة وغيرهم، لها الأثر الواضح في تكوين ثقافتي النظرية لعروضنا المسرحية البحرينية، بل إني فقهت اللعبة المسرحية للطفل من خلال مقالة د.إبراهيم غلوم عن مسرحية (ثعلوب الحبوب) لخلف أحمد خلف فانطلقت بتلك الأفكار الجميلة التي وردت في المقالة، كما إني تأثرت بكتابات يوسف الحمدان في جغرافية العرض وسينوغرافية الجسد، وفي فلسفة العرض وأبعادها النفسية لشيخنا المسرحي عبدالله السعداوي، أما عبدالله خليفة فقد كان يغمرني بتحليل وتفكيك للعرض لا تقل روعة عن مشاهدة العرض نفسه.
في ذلك الجو المفعم بالثقافة النقدية المتوهجة وبتقليب صفحات الملاحق الثقافية الرائعة -التي تلاش رونقها للأسف- فإني فقدت كثيراً من الزاد، وأصبحت أقلب صفحات الثقافة لأشاهد مقالات مقتبسة أو نقد لروايات وأفلام بعيدة كل البعد عن أعمالنا المحلية.
أعود وأقول بأني لا ألوم نقادنا على هذا العزوف، لكن في ظل خروج وليد هنا أو هناك موسوم بعلامات النبل والطموح فإننا لا نعذرهم البتة في أن يتركوه يكبر ويتخبط لوحده، فهم ملزمون بل مجبرون على رعايته لأنه روحهم التي يجب أن يحافظوا عليها وأمانتهم التي تخصصوا وكتبوا سنوات من أجلها.
فكر جميل وواقع شحيح
بين ماضي الفكر النقدي الجميل والواقع الشحيح كنت أصبّر نفسي وأمنيها بتحقيق شيء من الإنجاز والنجاح المسرحي، فكان ذلك ابتداء مع مسرح الطفل الذي عملنا فيه بمسرح البيادر من 2007 وإلى يومنا هذا بلا انقطاع، وعانينا الأمرّين ونحن ننتقل بالعروض من بلد إلى آخر نتحمل فيه مشاق السفر بالطائرة والسيارة والقطار لمسافات طويلة تصل أحيانا لعشر ساعات، وما ذلك إلا لأننا نحب المسرح، وقدمنا بضع مسرحيات للكبار في المهرجانات المحلية، وجاء اللوّامون يلومون ويعاتبون قلة أخبارنا في الإعلام، ولم يعلموا أننا نعمل بصمت «مكرهين لا محبين»، فمداد القلم لم يعد يمدنا بالنقد والنصيحة والمشورة والإبراز، ورغم أننا اجتهدنا في نشر أخبارنا ووضع إعلاناتنا في الجرائد والتلفزيون والراديو والرسائل النصية وغيرها، إلا أن ذلك كله لم يحرك الأقلام ولم يستفز وسائل الإعلام، اللهم إلا القليل في الراديو والنزر اليسير في التلفزيون، ولعلي هنا أوجه شكري للأخ العزيز أسامة الماجد والأخت سكينة الطواش لتواصلهما الجميل مع أخبار الفن والمسرح بالذات، وفي الراديو كانت هناك استضافات جميلة ليوسف الحمدان، هذه الأمثلة النادرة هي التي تلاحق وتنشّط التغطية الإخبارية للعروض المسرحية، ولكن تبقى تلك الجهود بعيدة عن البناء النقدي الذي نطمح إليه.
في هذه الأجواء دفعنا بكل ثقلنا وبخبراتنا الابتدائية التي اكتسبناها من عناء السفر والترحال في دول الخليج ودول شمال أفريقيا وأوربا وجئنا بعصارة أفكارنا لنصنع منها وجبة (بلا ليط) المسرحية التي مثّلت البحرين في المهرجان المسرحية الخليجي الثاني عشر في صلالة، ومن قبل عرضت في البحرين خمس مرات بحضور جماهيري هو الأكثر كثافة في عروض هذه السنة والسنة الماضية.
أين المرشدون؟
أكتب هذه الكلمات وشهادتي مجروحة، لأنني مخرج هذا العمل وعلى يدي تربت تفاصيل الأحداث وتطورات الأدوات، ولذا لا أقصد من هذه المقالة الكلام عن العمل وجودته، فهذا شأن المشاهد من الخارج، لكنني في صدد الحديث عن معاناتي كما هي معاناة غيري من الزملاء المخرجين في عزوف النقاد عن الكتابة حول هذه العروض. أنا متيقن أن ثمة نواقص ومثالب في هذا العمل، وأعرف أن هذه النواقص هي أثر من آثار تراجع الحركة المسرحية في البحرين، وليس هذا مقام التحليل السببي وتبيان أطراف المسؤولية من الفنانين أو وزارة الثقافة أو الإعلام وغيرهما، فهذا حديث يطول، لكن الحديث عن المرشدين في هذا الميدان وهم النقاد، ففي عمل بلاليط كانت هناك كثير من الشهادات التي وصلت لهذا العمل لفظا وكتابة، وكلها خارج حدود هذا الوطن، ففي المهرجان المسرحي الخليجي الأخير سُجلت شهادات للمسرحية في القبس الكويتية والحياة اللندنية وفي النشرة اليومية للمهرجان وفي صفحات بعض الفنانين في التويتر، ولعل شيئاً فاتنا لم نقرأه ولم نصل له بعد. أضف إلى ذلك أن العرض فاز بجائزة أفضل ممثل دور أول من نصيب الفنان الأخ عادل الجوهر، ومع كل ذلك كنت ومازلت إلى لحظة كتابة هذه المقالة بانتظار الفارس الذي يتصدى للكتابة عن هذه التجربة، لا لأني أنتظر الإطراء والمديح بل لأني بشوق عارم لأرى نفسي وعملي في مرآتي النقدية الصادقة الناصعة التي تربيت عليها.
تجربة ممتعة مضنية
تجربتنا مع بلاليط حرية أن تكتب وأن يكتب عنها، فلقد كانت رحلة طويلة ممتعة ومضنية وجهوداً بذلت لضبط بوصلة العرض المسرحي في مساره الصحيح، من بداية انطلاق القصة الحقيقية للمسرحية والتي هي من مغامرات الأخ العزيز رمضان يوسف ثم من تأليف وإبداع أستاذي جمال الصقر، ففي فبراير 2011، توقف المهرجان المسرحي لأوال بسب أحداث البحرين، وكانت بلاليط جاهزة للعرض بنسختها الأولية، فتأجل العرض ثم تأجل وتأجل حتى وصلنا إلى ديسمبر من العام نفسه، فأعدنا صياغة العمل بالاجتماع مع جميع الطاقم التمثيلي وأدلى الجميع بدلوه وتكاملت الأفكار في ورشة جماعية، وقٌدم العمل في ذلك الشهر بصورة مغايرة وبدرجة كبيرة عن البروفات الأولية وشهدت الصالة كثافة جماهيرية هي الأكبر في ذلك الموسم المسرحي، ثم توقف العمل وعاد في مارس لتقييمه من قبل اللجنة المحكمة التي ستختار العرض الخليجي فتم إعادة وترميم بعض العروض وتم تبليط بعض ممراته بالجديد، فقُدم في صورته الجديدة، ثم أعيد تقديمه بصورة مطورة في مهرجان الريف الفني ، ثم ختم بتشكيلات وإيقاعات جديدة في العرض الخامس قبل السفر لصلالة، وخلال تلك الرحلة حافظ الشباب الممثلون التسعة على الروح الجماعية النشطة ونقلوها إلى صلالة وشهد لها الجميع بالحلاوة والفكاهة والخفة والتناسق ، وكان العرض رقماً صعباً منافساً بجوار العرض الكويتي والإماراتي، وخرج فريق العمل من الندوة التطبيقية التي أعقبت العمل بكثير من الشهادات الإيجابية المفرحة، -التي لم تخلوا بطبيعة الحال من بعض الانتقادات حول الإخفاقات في بعض جوانب العرض– لكن المؤشر العام كان لصالح العمل جمهوراً وفناً.
شهادات مهمة
لهذه الأسباب وأكثر كنا ومازلنا بانتظار قطار نقادنا الأجلاء ليرشدونا نحو الجادة ولينتشلونا من حٌفر الطريق، حتى لا يصيبنا الغرور فنقف في مكاننا نراوح ظناً منا ببلوغ الكمال، إننا بحاجة ماسة لكل من يمتلك قلم النقد المسرحي أن يسجل شهاداته إيجاباً أوسلباً، فلقد قدّمنا بلاليط باسم البحرين ونحينا جانباً اسم البيادر لأجل هذا الوطن، وها نحن نعود ونعترف بأن جائزة التمثيل لعادل الجوهر وسمعة العرض الطيبة التي خرج بها هي هدية للبحرين، ولذا ندعوا كل من له علاقة بالمسرح أن يمسك ملعقته ليتذوق طعم الهيل والسكر في بلاليطنا ويحكم.