قصة قصيرة – جعفر الديري:
عمل أبي ساعي بريد زهاء خمسين عاماً. عمل بجدّ واجتهاد رغم مرتّبه الضعيف، وصحّته المتواضعة. حتى بعد أن أحيل إلى التقاعد، انضم لإحدى شركات البريد، فكان يوصل الرسائل لأصحابها بقدر ما يسعفه عمره المتقدم، حتى سقط فجأة في الشارع ولحق بالرفيق الأعلى.
حزنت كثيراً لموت أبي، أغلقت باب غرفتي وانقطعت عن الناس، ووحدها أمّي كانت البلسم الشافي لجراحي، فرغم ألمها كانت أكثر ثباتاً وشجاعة مني. لقد أعادتني شيئاً فشيء إلى واقعي، لأتبيّن أني أكبر الأبناء، المناط به مسؤولية رعاية أم وأختين.
كنت الأكبر رغم أن عمري لا يجاوز الثامنة عشرة!، كان هذا أمراً غريباً، فكلّ من كان يشاهدني بصحبة أبي يحسبني حفيده لا ولده البكر، لكن أبي كان سيء الحظ، لقد توفي له ستة أبناء قبل أن يستجيب الله لدعائه ويطيّب خاطره بي.
بعد موت أبي؛ انقلبت حياتي رأساً على عقب، فلم يعد الأمل بالدراسة في الخارج، سوى حلم بعيد المنال. فالحياة التي سأعيشها تقررت لي، ولم يكن لي أن أخالفها؛ وأنا الشاب الذي نشأ وسط أسرة محافظة، تضع رضا الوالدين محلّ رضا الله تعالى، وتعتبر مخالفتهما ذنباً لا يغتفر. كما إنّ وجود أختين في الأسرة، يعني مزيداً من المسؤولية لا يمكن التخلي عنها. إن للبنات في المجتمع الذي أعيش فيه، منزلة كبيرة، فبأيديهن حفظ كرامة الأسرة أو تلطيخها، فهنّ عبأ ثقيل، يقع على كاهل الأب والإخوة. لم يكن مقرراً لهن سوى البيت، فلا دراسة، ولا خروج من البيت إلا برفقة الأب أو الشقيق، حتى يتوفّاهن الموت في بيت أبيهم، أو أزواجهم. وكنت مسؤولاً عن أختيّ، باعتباري رب الأسرة بعد أبي.
لم أدهش في الواقع، عندما أخبرني صديق أبي أبو نعمه، أن وظيفتي محفوظة في الوزارة، وأنّ أبي رتّب لي كلّ شيء، بمجرّد انتهائي من الدراسة الثانوية، إذ كنت أعلم أن أبي -رغم رغبته في أن يراني إنساناً مميزاً في وظيفة تليق بصاحب عقل كبير كما كان ينعتني- كان يدرك أن العمل هو مستقبلي، وأنّ الحياة لن تجود علي بهذا الحظ الكبير، كما كان شأن الأغنياء الذين يمتلكون المزارع الكبيرة قرب البحر. وها أنا ذا أعمل في الوظيفة نفسها التي قضى فيها أبي جلّ عمره، متنقّلاً من قرية إلى أخرى ومن بيت لآخر، تلفحني الشّمس بنارها صيفاً، وتجمّد البرودة الدم في أصابعي شتاءً. أترحّم على أبي كلّما أحسست بالتعب، وبالنظرات السّاخرة يطالعني بها المتكبرون، ليس من الأغنياء وحسب، بل حتّى من أولئك الذين يعيشون في المستوى الذي أعيش فيه. غير أنّ أكثر ما كان يرهق قلبي سماعي عن طالب رجع من الدراسة في الخارج. كنت أمتلئ غيظاً، فأنهال على نفسي سخرّية، لاعناً حظي العاثر.
حدث يوماً أن طرقت باب أحدهم، لأسلّمه البريد، ففتح لي الباب شاب سرعان ما عرفت فيه زميلي في الدراسة، ورغم حفاوته بي، وإصراره على الاستراحة في بيته ولو لخمس دقائق، إلا أنّي وما أن خرجت؛ حتى هززت رأسي ساخراً من قدر أعمى؛ كان يتحدّث عن بيروت وعن جمال بيروت، وعن جامعة بيروت، عن شهادة المحاماة التي سينالها قريباً، وكنت أصغي إليه مبتسماً، فيما رأسي تكاد تنفجر لهول الضغط عليها.
أحسست وكأنّي لا في الأرض ولا في السماء، ولم أشعر هل أنا أتلقّى أشعة الشمس أم قطرات المطر! كان الألم قد بلغ مبلغاً تعذّر أن أتعايش معه. هربت بعيداً وانتبذت مكاناً قصياً، وجلست على الأرض في شبه أعياء، ورحت أخرج الرسائل وأتأملها في سخرية.
وصلت البيت، دخلت غرفتي، وأغلقت الباب، ونزعت ملابسي واستلقيت على سريري، وأنا ذاهل عن كل شيء، سوى الوساوس والأفكار التي عجزت عن صدها؛ لم يكن الشاب الذي استقبلني ذكياً ولا مميزاً، بل كان غبياً لا يستوعب جيداً، وطالما نهره المعلمون، بعكسي أنا المقدم لديهم؛ لم تكن هناك مادة واحدة تستعصي على عقلي، حتى الرياضيات واللغة الإنجليزية وهما أكثر المواد صعوبة، كنت مرجع التلاميذ فيها. تذكّرت عندها ابتسامات مدرّس اللغة العربية الفلسطيني الجنسية، مثنياً علي أمام مدير المدرسة، متنبئاً لي بنيل درجة الدكتوراة، وبمنصب كبير في جامعة مرموقة، تذكّرت عندها المسابقات التي كانت تقام في المدرسة، وكيف أن التلاميذ متى علموا باشتراكي فيها امتنعوا عن المشاركة، بل التمسوا مني تركها لهم، وكيف أني كنت أتسلّى بإغاظة بعضهم، فأشارك نكاية بهم وأفوز بها.
لم يحدث أبداً أن تخلّف ترتيبي عن الأول أو الثاني، منذ الأوّل ابتدائي وحتى السنة التي تخرجت فيها. ومع ذلك ها أنا أستلقي على فراشي الفقير، في الغرفة المعتمة الكثيفة الرطوبة، يتفصّد العرق من جسمي، بعد جولة طويلة أوصل فيها رسائل البريد لكل من هبّ ودب من الناس، مقابل راتب بالكاد يكفي لتأمين الطعام والشراب لأسرة ضعيفة الحال.
ما أقسى ذلك وأمرّه على إنسان ذي طموح، يرغب في حياة راقية تنتشله من الفقر والحاجة، وتفتح له ولأسرته مجالي الحياة الرحبة من بيت نظيف وطعام صحّي وتعليم متقدم، لكن آنّا لي ذلك وأنا الشاب الذي نشأ وسط بيئة فقيرة معدمة متخلّفة، لا تتناول من الطعام سوى الرز الأبيض والسمك وأحياناً باللبن! أنّا لي ذلك وأقصى أمنيات شباب أهل قريتي وظيفة كالتي حصلت عليها!، أنّا لي ذلك وأنا أرقب أكثر من فتاة تمشي عرجاء في القرية، بعد أن فعلت أيدي «المرّاخة» الجاهلة فعلها في قدمها؟!.