بقلم - خالد المرسي: تخلفنا فكريًا وتقنيًا لما فقدنا النموذج المطلوب من المدرس والمتعلم ولشرح ذلك أقول: لأننا في جامعاتنا التي ندرُس فيها علوم الدين والفكر والطبيعة لا نجد من يدرس لنا العلاقات التي تنتظم تفاصيل وجزئيات هذه العلوم أثناء شرحه لعلمه بشكل مقبول، ومن هنا، صار التعليم عندنا قائمًا على الحفظ بشكل كبير جداً، وصار المتعلم لا يعرف الفائدة والقيمة الحقيقية للعلم الذي يدرسه ودوره الفعال في النهضة، وأي إنسان لا يدرك هذه العلاقات إدراكًا مقبولاً أثناء دراسته لعلمه فهو إنسان ميت في حكم هذا العلم حيث يفتقد حياة وروح ونور هذا العلم - ولو كان علم الدين أو أي علم فكري أو طبيعي! أليس العلم نور؟! -، فهو لا يدرك هذا العلم فهمًا، إنما يعرفه حفظًا، فلا يسمى عالمًا به وإن حفظه، وهذه العلاقات - التي تنتظم التفاصيل والجزيئات – هي التي صيّرت العلم علمًا، وبفقدانها لا يكون علمًا قط ، ولذلك نحن المسلمين نعتقد أن دين الإسلام علم؛ لوضوح هذه العلاقات المنطقية فيه وانتظامها لجزيئاته وتفاصيله دون تناقض، وغيرُنا -من الأمم- لا يَعدُّونّ الدين من “العلوم” لأنهم لا يرون هذه العلاقات فيه. ولكي ترى أمثلة على هذا: في علم اللغة العربية - مثلاً - اقرأ كتاب التطبيق النحوي للعلامة “عبده الراجحي” -رحمه الله- ستجده يشير في كتابه إلى أهمية بيان هذه العلاقات في تحبيب علم اللغة وتيسيرها على المتعلم وفي إعادة اللغة العربية لمكانتها الرفيعة، وستجده في كتابه هذا مثالاً للعالم الذي استطاع بيان هذه العلاقات أثناء شرحه لعلمه بشكل مبدع. ومن دلائل هذا الموت الفكري في بعض العلوم كعلم الفكر المُستنبط من هداية الدين أنك تجد بعض من ينتسب إلى العلم الشرعي! يقرأ تفسير “المنار” مثلاً أو الكتب التي تنحو منحاه الفكري، ثم لو سُئل عن مدى فائدة هذا التفسير أجاب وقال: لا فائدة فيه أو لا كبير فائدة فيه، وذلك لأنه لم يجد من يشرح له أثناء قراءته للتفسير هذه العلاقات التي تنتظم تفاصيله في عقله وتُعلمه كيف يُفعِّلها في حياته. وأما المتعلم -بالإضافة لما سبق- فلأن المواطن في العالم العربي يعاني من هضم مستمر لكرامته، ولا يجد المعاملة اللائقة به كإنسان كريم في حياته اليومية في محل عمله الدائم وفي خارج نطاق العمل أثناء ممارسته لمختلف أنشطة الحياة، فهو مع وضعيته هذه إذا وجد من يحاول إسداء النصح له وتنويره الفكري -بالشكل الذي سبق- وجد المواطن هذا التنوير يتناقض مع ما يعانيه في حياته من هضم للكرامة -وما يستلزمه هذا الهضم من تشوهات نفسية-، والمتناقضان لا يجتمعان حتى يترك أحدهما المكان للآخر، لأن التقاط هذه العلاقات وفهمها هو أحد قسمي النور الذي جعله الله في السماوات والأرض وحمد نفسه وحمده الحامدون عليه (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) سورة الأنعام:1/ راجع تفسير المنار. ومن الأسباب- كذلك -: التخلف الاقتصادي الذي نعانيه والذي يجعل وعي المواطن كله مفرقًا ومشتتًا في البحث عن ضروريات الحياة حتى صار من خوف الفقر في فقر، يظل وعيه مشغولاً بذلك لا مكان فيه لغيره حتى يأتيه الموت! والسبب الأول هو جرثومة الداء وسر البلاء، ويجب العمل عليه حتى في ظل ظروف تعاني الأمة فيها من الأمراض الأخرى المانعة لفعاليته؛ لوجود أفراد كثيرين ومجموعات يكفيهم الله -تعالى- الآثار السيئة لهذه الأمراض أن تعمل عملها فيهم وتدمر فاعليتهم، فلو وجد هؤلاء الأفراد من يعلمهم التعليم اللائق لصار لهم دور جيد في تغيير المجتمع ولو في ظل هذه الظروف السيئة، بل، من سنة الله تعالى أن يجازي العاملين على هذا السبب -لو تفانوا فيه- بأن يمهد لهم الطريق ليتمددوا ويطال تغييرهم المجتمع كله عبر إزالته -سبحانه- الموانع من طريقهم كفارًا كانوا أو مؤمنين ليكون جزاءً للكفار على عملهم الصائب في الدنيا ثم لا يجدون شيئاً منه في الآخرة لكفرهم، ويكون جزاءً منقوصًا للمؤمنين في الدنيا ثم يجدون الجزاء الأوفى في الآخرة. ولو حدثت تغييرات تزيل هذه الموانع أو تمهد لإزالتها كتغييرات الربيع العربي الآن ولم يكن في الأمة من يستطيع الأخذ بالسبب الأول ؛ لظل تحقق النهضة المرجوة رهينًا بوجود هذا السبب. ومن أراد معرفة فلسفة وأهمية إدراك العلاقات في نهضة أي أمة -من حيث علاقتها بماضيها وحاضرها ومستقبلها - وكيف أن الأمة تموت لو لم تدرك هذه العلاقات فليقرأ مقال بعنوان “ما معنى أن يكون المرء سلفياً؟” للبروفيسور أبي يعرب المرزوقي -حفظه الله -. والحمد لله رب العالمين.
970x90
{{ article.article_title }}
970x90