كتب - أمين صالح:
يعد بونويل واحداً من أعظم المخرجين في تاريخ السينما. قدّم إنجازات فنية رائعة، وأبدع - خلال خمسين سنة من مسيرته السينمائية - أفلاماً ذات خاصية عالية، فكرياً وجمالياً، احتلت مكانة بارزة في عالم السينما.
في أفلامه، ذات الحس السوريالي، الهجائي، الساخر، نجد نقداً عنيفاً للقيم البورجوازية والدينية والعائلية، ولمؤسسات الدولة، من خلال رؤية ثورية، تتحد فيها النظرة الماركسية والفرويدية، موظفاً المخيلة السوريالية والدعابة التهكمية.
الطبقة البورجوازية، بكل مؤسساتها ونظمها وتقاليدها ورموزها وتفاؤلها وممارساتها الوحشية والقمعية وجوعها إلى السلطة وشعورها بالإثم. هذه الطبقة كانت هدفاً أساسياً لهجمات بونويل وسخريته اللاذعة وهجائه المرير ومحاولاته العنيدة، المتواصلة، لفضح أسسها ومقوماتها، لاستجواب بقائها واستمراريتها، ولتقويض عالمها الصقيل الخادع.
الإيروسية والموت
عن طفولته ونشأته، يتقول بونويل: “ولدت في 22 فبرايــــــــــر 1900، في كالاندا، إحدى مدن إقليم تيرويل بإسبانيا. أبي أمضى كل حياته تقريباً في أمريكا، حيث نجح كتاجر في جمع ثروة لا بأس بها. في الأربعين من عمره قرر أن يعود إلى بلدته الأصلية، كالاندا، وهناك تزوج المرأة التي أنجبتني، وكانت في السابعة عشرة من عمرها. وقد نتج عن هذا الزواج سبعة أبناء، كنت أولهم.
طفولتي انزلقت في مناخ شبيه بمناخ القرون الوسطى “كما هو الحال تقريباً في جميع المقاطعات الإسبانية”. أشعر أن من الضروري توضيح “بما أن هذا يفسر إلى حدٍ ما اتجاه أعمالي المتواضعة التي أنجزتها في ما بعد” أن ثمة نزعتين أساسيتين هيمنتا عليّ منذ الطفولة وحتى مرحلة المراهقة: الأيروسية العميقة، المنصهرة في إيمان ديني حاد، والوعي الدائم بحضور الموت. إن تحليل الأسباب يتطلب مجالاً واسعاً ووقتاً طويلاً، يكفي القول بأنني لم أكن استثناءً بين زملائي، فقد كانت صفة مميزة أسبانية جداً. وفننا، الذي يمثّل الروح والشخصية الأسبانية، كان ملقّحاً بهاتين النزعتين، أو هذين العاملين. والحرب الأهلية، الفريدة في ضراوتها وخاصيتها، فضحتهما بوضوح. سنواتي الثمانية، كطالب مع القساوسة اليسوعيين، غذّت ونمّت هاتين النزعتين عوضاً عن تقليصهما”.
كراهية الدراسة
ويواصل بونويل: “حتى حصولي على البكالوريا، في السادسة عشرة من عمري، لم أكن أعتبر نفسي فرداً منتمياً إلى المجتمع الحديث. ذهبت إلى مدريد للدراسة: كان الانتقال من الإقليم إلى العاصمة مذهلاً بالدرجة نفسها التي يشعر بها صليبي وجد نفسه فجأة في الشارع الخامس في نيويورك.
عندما تخرجت حاملاً شهادة البكالوريا، سألني أبي عن المجال الذي أرغب في دراسته. كنت مولعاً أساساً بشيئين: الموسيقى “وسبق أن تدربت قليلاً على عزف الكمان” والعلوم الطبيعية. طلبت من أبي أن يسمح لي بالذهاب إلى باريس والالتحاق بمعهد موسيقي، غير أنه رفض بشدة وحاول إقناعي بأن الفنان عرضة للموت جوعاً. ذلك كان موقف أي أب إسباني “وربما أي أب في أي بلد آخر”. ثم أخذ يطري اهتمامي الآخر: العلوم الطبيعية، وألح عليّ أن أذهب إلى مدريد لأدرس الهندسة الزراعية.
في 1917 وجـــــــــدت نفســـــــــي مستقــــــــــــراً في مدريد، مقيماً في سكن الطلبة. الملفت للنظر أن مهنة مهندس زراعي، في إسبانيا، هي الأكثر صعوبةً، مع ذلك يسعى إليها الشاب لأنها مهنة مشرّفة جداً، أرستقراطية جداً. طموح الشاب الأسباني، الأرستقراطي، أن يصبح مهندساً أو دبلوماسياً. وهذه الدراسة كانت تقتضي ذكاءً ومورداً مالياً كافياً، بسبب التكاليف الباهظة بالقياس إلى أسلوب الحياة البسيطة والمتواضعة.
في مجال الهندسة الزراعية كان هناك وضع عبثي وسخيف، إذ من الضروري أن يدرس المرء الرياضيات لمدة ثلاث سنوات، وبذلك نجحوا في جعلي أكره الدراسة.
عندئذ قررت أن أتحرك حسب مشيئتي وأن أفعل بناءً على رغبتي الذاتية، لذلك قررت، في 1920، ومن غير أن أنتظر إذناً من والدي، أن أدرس الحشرات على يد مدير متحف التاريخ الطبيعي في مدريد عالم الحشرات الإسباني د. بوليفار، رغم أن هذه الدراسة لا تخوّل المرء لتحقيق مكاسب مادية بعد التخرج. كرّست نفسي للحشرات لأكثر من عام، ثم توصلت إلى نتيجة بأنني كنت مهتماً بحياة أو أدب الحشرات أكثر من التشريح والتصنيف والوظائف الفسيولوجية”.
تأسيس النفس
ويتابع بونويل: “في ذلك الوقت، في سكن الطلبة، كوّنت صداقات حميمة مع مجموعة من الفنانين الشبان الذين كان لهم تأثير قوي في تشكيل ميولي، مثل: الشاعر فدريكو غارثيا لوركا، الرسام سلفادور دالي، الشاعر والناقد مورينو فيلا.. وغيرهم.
إن ميولي الأدبية الجديدة جعلتني أدرك بأن هدفي كان الفن والأدب، وليس العلوم الطبيعية، فقد كنت أفضّل المناقشات مع الأصدقاء في المقهى على الجلوس أمام الطاولة والتحديق عبر الميكروسكوب. لذلك غيّرت مجالي مرة أخرى وشرعت أدرس الفلسفة والأدب.
لا أستطيع الزعم بأني كنت طالباً مثالياً. وقتي كان موزعاً بين اجتماعات الأصدقاء اللامتناهية، وكتابة الشعر والرياضة. في العام 1921 أصبحـــــــت بطـــــل الملاكمة للهواة لأن الأعور، في بلد العميان، ملك.. كما يقول المثَل.
تخرجت من جامعة مدريد في العام 1924. بعد انتهائي من الدراسة وجدت نفسي تائهاً. المَخرَج الوحيد كان أن أمارس مهنة التدريس في معهد أو جامعة، وهي المهنة التي لم أشعر أنها تتوافق مع طبيعتي وميولي. كنت في الرابعة والعشرين، وكان عليّ أن أفكر بجدية في تأسيس نفسي وفق طموحاتي. مع ذلك شعرت بالتردد والارتباك أكثر من أي وقت مضى. هذا هو الخطأ الشائع بين الإسبان: عوضاً عن جعل الشاب ينمو وفق استعداداته وقابلياته وميوله، فإنهم يرغمونه على إتباع السبيل الذي رسمه والداه. الطالب، عندما يغادر حضن عائلته، ويجد نفسه مستقلاً، ينجذب إلى الحياة أكثر من الدراسة.
إن توتري وقلقي قد تبددا مباشرة حين وافقت أمي على سفري إلى باريس. أبي كان قد توفى قبل عام”.