كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
«هل تعود أيام الفزعة لتجمع البحرينيين؟” يسأل كمال بوكمال في حسرة، ويضيف “الأيام الخوالي كانت جميلة، أسرة بحرينية واحدة تتقاسم الأفراح والأحزان، يأكلون في إناء واحد، يتقاسمون رغيفهم وأحلامهم، لا شيء يفرقهم طالما جمعتهم يد المحبة والمودة”. لا يغفل بوكمال عن سرد ذكرياته الأولى عن سكناه بمدينة عيسى “البعض تردد بالانتقال، الفرجان لا تُهجر لصالح مدينة يجوب الجان شوارعها وطرقاتها، و«الجمل ذا الرأسين” يغري الأطفال بالركوب عليه قبل أن يفتك بهم ويفترسهم”. ويقول بوكمال “أهالي مدينة عيسى الأوائل عاشوا “الدلع” بتفاصيله، اختاروا شققهم وبيوتهم بأنفسهم، راجعوا الإسكان وتسلّموا مفاتيحها وانتهى الموضوع “حظوظ”، أين تلك الأيام من الطوابير الطويلة أمام وزارة الإسكان اليوم وقوائم انتظار لا تنتهي؟”. درس بوكمال في مدارس المحرق تربى بشوارعها، وكأحد أبناء البحرين كانت بداياته التعليمية في مدرسة أبو عبيدة بن الجراح، عشق رياضة أهل البحرين المفضّلة كرة القدم، بدأ مشواره بنادي شط العرب، وفي عام 1965 انتقل إلى مدينة عيسى ولعب الكرة ضمن أشبال النادي، لكن الانتقال إلى مدينة عيسى أواخر 1967 كانت بداية مختلفة في حياة كمال بوكمال.
بدأ من عامل بمحطة البترول إلى مخرج في الإذاعة ثم شاءت الظروف أن يُطلب للعمل بقوة الدفاع وانتقل إلى مديرية الإرشاد والثقافة وعمل فيها حتى تقاعد من الوظيفة، قبل أن يُعيّن أخصائياً للعلاقات العامة بمحافظة المحرق.
الجان والجمل ذو الرأسين
فتح كمال بوكمال قلبه وعقله للحديث “مدينة عيسى كانت منطقة جديدة ولم ترقَ إلى مدينة سكنية، بعض الناس اعتادوا حياة الفرجان وترددوا بالانتقال إلى هذا الجسم الجديد بالنسبة لهم، كان بعضهم صدق إشاعة مفادها أن المدينة يسكنها “الجان”، ومن ينتقل للعيش فيها يتعرض لمضايقات الجن”.
ويضيف بوكمال “بعضهم أخذه الخيال بعيداً، وبدأ يشيع أن هناك جملاً له رأسين يظهر في بعض مناطق المدينة وفي أوقات محددة عندما تميل الشمس للمغيب، وأحياناً تجده بالمنطقة الشرقية وبعض الأحيان يتمشى في الغربية، ودائماً ما يبحث عن الأطفال يغريهم بالركوب على سنامه ومن ثم يختفي ولا يعود الصغار إلى ذويهم”. ويعود سبب تردد البعض في سكنى مدينة عيسى في ذلك الوقت غياب وسائط النقل على حد وصف بوكمال، ويتابع “من يذهب إلى المحرق مثلاً لن يستطيع العودة إلى المدينة في اليوم ذاته، كانت سفرة “ون ويه” يعني إن ذهبت لا تعود إلا في اليوم التالي”.
رحلة حياة
اعتاد بوكمال العيش في “الجسم الجديد” ويقول “كنا قلة من الطلبة توزعنا على المدارس، نتجمع عند الصباح ويقلنا الباص إلى مدرسة الرفاع، المدارس في المدينة لم تصل إلى السنة الإعدادية كانت في بدايتها”.
ويسرد ذكريات الطفولة “نقطة التجمع عند موقف باص المدرسة خلقت بيننا كطلبة صغار علاقات صداقة ومودة، جاء الجميع من مختلف مناطق البحرين والكل سكن في بيت جديد، ولم يتأقلم بعد مع الحياة المدنية بعد الفرجان، بدأنا في تكوين العلاقات والتفكير في توسيعها بالبحث عن نادٍ يجمع سكان المدينة من الشباب لتوثيق العلاقات وتقوية أواصرها”.
ويتشوق للحديث وينشد أكثر لغماره “أتحدث عن فترة أواخر عام 1966، كانت المدينة تفتقد للكثير من الخدمات وأهمها الإنارة، كنا نخاف الخروج ليلاً من الظلام الدامس، والجان يتربص بنا في كل زقاق وشارع، وكانت المدينة أيضاً تعاني من زيادة الملوحة في الماء، وسيارات “البيلر” نصطادها بـ«التفق” نبحث عنها كل صباح ونتخابر عن مكان وجودها”.
نادٍ للرياضة والتواصل
يواصل كمال سرد مشوار حياته وذكرياته بالمدينة “في عام 1998 بدأت علاقتي بالنادي من خلال مجموعة أصدقاء، تعرفت عليهم ونصحوني بمرافقتهم، وفعلاً زرت النادي وقدمت رسالة للعضوية، كان النادي شقة إسكان بالدور العلوي ويعلو مجموعة دكاكين”، ويضيف “كان النادي بالسوق، ويضم غرفتين صغيرتين وصالة أصغر، كان الجميع سعداء بالانتساب إليه، فهو التسلية الوحيدة المتاحة بمدينة بدأت تستعيد عافيتها، وتلملم أبناء البحرين تحت مظلة النادي”.
ويقول “انضمامي للنادي تزامن مع اشتراكي بفريق الأشبال حديث النشأة بقيادة المدرب أحمد راشد ثاني قبل استقراره في الإمارات، وفي تلك الفترة كان يرأس النادي عيسى بن سلطان الذوادي، وضم الفريق مجموعة كبيرة من اللاعبين ممن برزوا مع أندية البحرين في فترات لاحقة، لكني لم استمر مع الفريق كلاعب لفترة طويلة وفضّلت العمل في السلك الإداري.
من الرياضة إلى التمثيل
ويتابع بوكمال الحديث عن انتقاله من الرياضة إلى تأسيس فرقة تمثيلية “بعد قدوم المرحوم سلمان عاشور إلى النادي، بدأ بتشكيل فرقة للتمثيل، وكانت الفرقة تقدم أعمالاً من تأليف وإخراج عاشور”.
وذكر من الممثلين الذين عمل معهم في النادي وتحديداً في المسرح إضافة إلى عاشور، يوسف سالم وسالم سلطان وعبدالرحمن صالح الدوسري ومبارك جوهر وسعيد أحمد وإسماعيل مجبل ومجموعة كبيرة أخرى من الزملاء.
قدمت الفرقة أعمالاً كثيرة أجملها بوكمال “مسرحية المهر غالي ونادي النسوان”، ويقول “مثلت دور أختك في المهر غالي، ونجحت الأعمال التي لاقت قبولاً من عوائل المدينة تلك الفترة، وخاصة في مناسبات الأعياد، وكنا نقدم المسرحيات في حوش النادي الأرضي وهو أحد الممرات المؤدية إلى الشقق العلوية في المجمع السكني ومن ضمنها النادي”.
ويردف “في هذا -الحوش- الممر بنينا المسرح ونظّمنا المسابقات الرياضية والندوات الثقافية، تفهم سكان الشقق ظروفنا ولم يمانعوا تقديم العروض، وكانت المدينة عام 1968 تفتقر للبرامج المسلية والحدائق، المرافق الخدمية لم تكتمل، ووجود النادي وبرامجه المسرحية بمثابة المنقذ لأهالي المدينة، وهو ما ساعد في إنجاح أعمالنا المسرحية فترات طويلة في ظل غياب البديل بالنسبة لسكان مدينة عيسى في مجال التسلية”.
وعمل على تأسيس مسرح النادي حينها على حد قول بوكمال “مجموعة زملاء منهم عيسى القصاب، علي مهدي، يوسف سالم ومجموعة أخرى من أعضاء النادي المؤسسين”.
في هذه الفترة يضيف بوكمال “بدأ أهالي المدينة يطمئنون لأوضاعهم بأن المنطقة بعيدة عن سكن “الجان”، ولا جمل برأسين يخرج ليلاً ليروع السكان، بدأت الأمور تعود لمجراها الطبيعي، وبدأ الأهالي يمدون في سهراتهم بالليل خارج منازلهم”.
ويتابع “أزمة المواصلات وجدت طريقها للحل، وسُيّرت باصات النقل العام، وامتلك كثيرون سيارات خاصة وخدموا جيرانهم في إيصالهم لحوائجهم وأشغالهم”.
شهدت مدينة عيسى عام 1972 انتعاشاً لافتاً، ولم يعد الناس يترددون في الانتقال للسكن بالمدينة، يقول بوكمال “أخذوا يتوافدون ويختارون مساكنهم بأنفسهم، حينها كان المواطنون يختارون المنطقة والسكن، ثم يأخذون رقم البيت إلى الإسكان ويحصلون عليه بسهولة ودون تطويل في المراجعات أو انتظار دورهم، لأن المساكن كانت أكثر بكثير من الطلبات المقدمة”.
ويتابع “عُشنا فترة “دلع” بتفاصيلها، كثيرون غيّروا بيوتهم حسب مجاورتهم لأهلهم أو أصدقائهم، وحصلوا على ذلك بسهولة”.
النادي في كتاب
ويتذكر بوكمال “أول تشكيل إداري في النادي كان قبل انضمامي له عام 1967 برئاسة محمد عبدالله السعد وسلمان الدلال ومحمد عواد ومحمد الذوادي”.
ويضيف أنه يعتزم إعداد كتاب يوثّق لفترة تأسيس النادي ما بين عامي 1967 - 1977 “ما يعني أن العام 1977 شهد بداية انتقال النادي من الشقة في السوق إلى مبنى النادي الحالي”.
التقى بوكمال العديد ممن عايشوا تلك الحقبة من عمر النادي ومن شاركوا في مجلس إدارته وزاولوا فيه النشاطات ويسرد “الكتاب يتحدث ليس عن النادي فحسب بل يتناول في سطوره المدينة نفسها والعوائل التي سكنتها وكيف تعايشت مع ظروف نشأتها الأولى؟”. ويتناول بالشرح مضمون الكتاب “كُلّفت بإعداده من قبل إدارة النادي الحالية لأدون تلك الفترة، كانت فكرتي أساساً وقدمتها للنادي ورحبوا بها، وكلفوني بالمواصلة فيها وعمل مسح شامل عن المدينة والنادي إبان تلك الفترة، ووصلت إلى مراحل متقدمة في إعداد الكتاب وأجريت لقاءات مع العديد من الشخصيات وحصلت على صور كثيرة نادرة”.
ويقول عن مراحل إعداد الكتاب “المرحلة المكملة في الكتاب من عام 1977 إلى 2012 هي الأصعب، لأني استعرض فيها الكثير من الشخصيات التي مرت على النادي والمدينة، ممن تقلدوا مناصب إدارية رفيعة في النادي والمدينة، وهي كثيرة وبدأت بإجراء اللقاءات وتدوين مراحل المدينة والنادي في تلك المرحلة”.
ولم يغفل بوكمال عن أعضاء اللجنة الإدارية المؤقتة قبل إنشاء النادي ويقول “دوّنت أسماءهم وبدأت في إجراء الحوارات معهم، حول حياة مدينة عيسى والنادي أيضاً”.
ويستدرك “طبعاً بعضهم توفي والبعض الآخر ترك المدينة وانتقل للعيش بمناطق أخرى، لكني بحثت جاداً عن شخصيات والتقيت منهم الكثيرين ودوّنت ذكرياتهم”.
ويضيف “التقيت أكثر من 13 شخصاً جميعهم تحدثوا عن ذكرياتهم في تأسيس النادي، وسكنهم في مدينة عيسى عند بدايات تأسيسها”.
وتوصل بوكمال إلى “محاضر اجتماعات في منزل محمد كمال، لإعداد مسودة مشروع تأسيس إدارة نادي مدينة عيسى، ما جرى في الاجتماع وكيف انتهى؟ ما اعترضهم من معوقات؟ كل تلك الفصول مسجّلة في كتاب يعد مرجعاً للنادي وتوثيقاً لتاريخ المدينة”.
ويقول “كان عدد المجتمعين 21 عضواً يُشكلون نواة الأعضاء لتشكيل مجلس إدارة، كان ذلك في 24 فبراير 1967 وفاز محمد عبدالله السعد بالتزكية، وكان أول رئيس رسمي لنادي مدينة عيسى”.
استقالت الإدارة بسبب التأثيث
ويروي بوكمال مبتسماً طرفة واجهته إبّان تلك الفترة “الإدارة لم تدم سوى 9 أشهر، بعدها تركت مناصبها في النادي، وكانت أسباب تركهم النادي أنهم لم يجدوا من يساعدهم في تأثيث شقة النادي، وبعد أن فقدوا الأمل قرروا ترك الإدارة والرحيل عن النادي”.
ويواصل سرد ذكرياته “أصبح النادي بدون مجلس إدارة، وبعد الاستقالة أصبح الأعضاء يبحثون عمّن يقود السفينة كان ذلك في السبعينات، وتوجهوا إلى عيسى سلطان الذوادي، وكان يشغل منصب مدير مدينة عيسى، ومن مهامها تقديم الخدمات البلدية والإسكانية لأهالي المدينة”.
ويتابع “عيسى الذوادي لم يتجاوز عمله أكثر من 9 أشهر بالمنصب، وجاء بعده العديد من الأسماء منهم محمد جلاق وأحمد راشد ثاني، وإبراهيم الظاعن، وعيسى القصاب، وكان مدة الرئاسة سنة واحدة حتى أن بعضهم تقاسموا الفترة، كل عضو كان يتسلم المنصب 6 أشهر فقط ويغادر مخلياً المنصب لسلفه”.
ويُشير بوكمال إلى “هذه الفترة شهدت نجاحاً لأبناء المدينة، وتعاونهم في أن يستمر العمل في النادي، وأن تنجح الإدارات المتعاقبة عليه وترتقي به في مشاركات سجلت له نجاحات متوالية، سواء الفنية أو الثقافية أو الرياضية”.
لا صغار في النادي مساءً
يقول بوكمال “كانت للنادي شروط لقبول العضوية، فالصغار لا يتعدى اشتراكهم 250 فلساً والكبار 500، والصغار عليهم دخول النادي بعد الظهر، أي أنهم ممنوعون من الدخول بعد السادسة مساء، وهي الفترة المخصصة للكبار فقط، ولإتاحة الفرصة للصغار للذهاب إلى بيوتهم والنوم باكراً”.
ويردف “كان ملعب النادي في منطقة “الهورة” بالساحة المقابلة لوزارة العمل الآن، وكان الملعب مخصصاً للكبار لأنه في منطقة بعيدة، أما الصغار فلهم ملعب صغير في منطقة “سينما الأندلس السابق” وهو ملعب مدينة خليفة لكرة القدم الحالي”.
أول عائلة سكنت المدينة
ويتابع بوكمال “حرصت بالحديث عن تاريخ مدينة عيسى وعن أول عائلة سكنت المدينة وهي عائلة عبدالله الخطيب، وحرصت أن ألتقي أبناء هذا الرجل والحديث عن ذاكرتهم، وعن حقبة كانت المدينة فيها مجرد منطقة أشباح، ولا يوجد فيها أي مرفق خدمي يشجع على السكن فيها، وعرضت في كتابي لهذه الفترة وكيف كان الناس يقضون أوقاتهم في المدينة”.
ويضيف “عام 1968 شهد تسليم أول مفتاح لأول بيت في المدينة، برعاية المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وأُقيم له احتفال رسمي وشعبي كبير”.
ولم ينسَ “أن ألتقي العاملين في إسكان المدينة المسؤولين عن توزيع البيوت الإسكانية حينها ومنهم عبدالحي سيد أحمد وعيسى الذوادي ويوسف أحمد حسين ومحمد جمعة مراد، هؤلاء لم أنسَ أن ألتقيهم وأستمع إلى ذكرياتهم”.
ويقول “كانت هناك مجموعة شقق بُنيت في السوق والمحال التجارية، لم تكن للإيجار بل لسكن أصحاب المحال، ومن يملك برادة أو مخبزاً يخصص فوقها بشقة ليسكن فيها، وبذلك بدأت الشقق الإسكانية لأصحاب المحال التجارية بالمدينة”.
ميّز النادي علاقته بأعضائه بتنظيم رحلات في بساتين البحرين “كانت الرحلات مقتصرة على الأعضاء الكبار وممنوعة عن الصغار، وكنا عندما يتجمع الأعضاء عند الباص ننظر إليهم والحسد يأكلنا، على أنهم سيستقلون الباص في الرحلة ونحن محرومون منها، تمنينا أن نكبر بسرعة كي يصرح لنا المشاركة في الرحلات، حيث كانت دائماً ما تأتينا أخبارها أنها ممتعة ومشوّقة، وقضى فيها الأعضاء أوقاتاً جميلة في تنقلهم بين بساتين البحرين وعيونها”.
المدينة قرّبت بين الناس
يواصل كمال سرد ذكرياته عن المدينة وأهلها “أتذكر أن السكن والانتقال إلى مدينة عيسى قرب ما بين الأسر البحرينية التي اعتادت السكن في الفرجان والقرى، وتربت فيها وكبرت، حتى أن الحياة في المدينة غيرت فينا الكثير من العادات وقربت بين السكان، وكان الجار إذا أراد أن يذهب للمحرق مثلاً يسأل جيرانه من منكم يود زيارة أهله في المحرق ليأخذه في طريقه بالسيارة، أو أنه كان يود أن يزور مستشفى النعيم يسأل من يود أن أوصله إلى تلك المنطقة، ومن عنده موعداً في المستشفى لأقله، هذه العادات تغيرت الآن ولا تجد من جارك المودة السابقة، وإن باشرك بتحية الصباح فهو يحمّلك منّة”.
من محطة البترول إلى المحرق
يقول بوكمال “درست إلى السنة الإعدادية ولظروف العائلة تركت الدراسة لأعمل مع مجموعة شباب في محطة البترول بمدينة عيسى، وشاءت الصدف أن يأتي أحد الزبائن ليملأ خزان سيارته وقال لي أنت شاب وبإمكانك أن تبني مستقبلك بعيداً عن هذا العمل لماذا لا تذهب للعمل بوزارة الإعلام؟”.
ويتابع “بعد يومين زارني في المحطة، وإذا به يبشرني أنه وجد لي وظيفة في إذاعة البحرين، كان ذلك عام 1973 أفرحني الخبر كثيراً، وكانت خطوتي الأولى في الإذاعة مع المخرج نبيل العلوي”.
في الإذاعة أخذه نبيل العلوي إلى مكتب أحد الموظفين “كنت استمع إليه واحترمه كثيراً، لكني عندما التقيته وجهاً لوجه شعرت بالكثير من الرهبة، كان المرحوم الأستاذ إبراهيم كانو مدير الإذاعة حينها”.
بعد تعيينه في الإذاعة بدأ مشواره الأول ويتابع “تفتح الإذاعة بثها التاسعة والنصف صباحاً وتغلق عند الحادية عشرة والنصف ظهراً، والفترة الثانية من الثالثة والنصف إلى الخامسة والنصف مساءً، وكان مقرها عند وزارة العمل القديمة خلف معهد المعلمين في القضيبية”.
ويتحدث عن مهنته في الحقل الإعلامي “عملت بوظيفة فني إرسال، كنا نعمل في الرسائل على الهواء بصحبة مجموعة من كبار المذيعين أذكر منهم حسن كمال وعبدالرحمن عبدالله وعتيق سعيد أحمد يتيم وعلي تقي، ثم عملت منفذاً”.
عام 1975 جُهّز المبنى الرسمي للإذاعة في العدلية “كان المبنى متكامل المرافق وعملت فيه إلى مطلع عام 1988، وكنت وقتها أُخرج برنامج “حماة الوطن” لقوة الدفاع، ويقدمه سلمان بن هندي بالاشتراك مع إبراهيم كانو، والحلقة التي تليها من تقديم سعيد الحمد وعتيق سعيد وفي كل حلقة كان مذيعان يتناوبان على تقديم البرنامج، مستدركاً “لكن سلمان بن هندي كان الأساس في كل الحلقات إضافةً إلى وجوه تتغير معه”.
في عام 1978 طلبت قوة الدفاع أن ينتقل بوكمال للعمل هناك “كان لسلمان بن هندي دور أساس في نقلي من الإذاعة لقوة دفاع البحرين، عملت بالقوة منذ 1978 إلى 2003 وتحديداً في مديرية الإرشاد والثقافة، ولكن عملي مع إذاعة البحرين لم ينقطع رغم انتقالي إلى قوة الدفاع، وهذا الاتفاق كان قبل أن انتقل لعملي الجديد، لأنني لم أتعلم الإعلام إلا على أيدي مسؤولي الإذاعة، وأكن لهم كل الاحترام في تطوير مهاراتي الإعلامية”.
تحوّل بوكمال في العام 1983 من مدني إلى عسكري في مديرية الإرشاد والثقافة بقوة الدفاع ويضيف “استمرت هذه الوظيفة معي إلى فترة تقاعدي عن العمل عام 2003، كانت فترة استفدت منها الكثير من خلال عملي الإذاعي، وتعرفت من خلاله على أسلوب العمل الإذاعي والعمل مع كبار المخرجين والمعدين والمقدمين البحرينيين في إذاعة البحرين”.
حتى خلال فترة عمله بالإذاعة ظل بوكمال مرتبطاً بنادي مدينة عيسى “حتى أني في إحدى الحفلات استعان النادي بميكرفونات للحفل وكنت أحضرت هذه الميكرفونات والمسجلات للحفل عن طريق علاقتي بالإخوة في الإذاعة، الذين لم يتأخروا في مساعدة النادي وتقديم المعدات كهدية من الإذاعة لنادي المدينة”.
رحلة جديدة إلى المحرق
أمضى بوكمال بعد تقاعده عام 2003 ما يقارب 9 أشهر دون عمل، و«شاءت الصدف أن ألتقي محافظ المحرق سلمان بن هندي في إحدى المناسبات، وبحكم عملي السابق معه والذي تجاوز 35 عاماً سألني أين أعمل الآن؟ قلت له مازلت في التقاعد، فأجاب إن شاء الله نشغلك عندنا”.
بعد مرور أيام “اتصل بي المحافظ وطلب مني الحضور إلى مبنى المحافظة، وفي نفس الوقت كانت إحدى الموظفات وتعمل أخصائية علاقات عامة قدمت استقالتها من المحافظة، وكنت درست العلاقات العامة قبل عملي في المحافظة فعينت في نفس الوظيفة، ومنذ عام 2003 إلى هذه اللحظة مازلت أعمل بنفس الوظيفة”.
«العمل مع سلمان بن هندي بحد ذاته متعة وفائدة” يقول بوكمال “هذا الرجل يعاتبك وهي طريقته في النصح، فالعتاب خير من النصيحة لتعليم كل إنسان أخطائه، والأخذ بيده نحو تطوير عمله والعناية أكثر والحفاظ على صلاته بالآخرين”.
يعتبر بوكمال نفسه محظوظاً “لأنني ارتبطت بالعمل مع هذا الرجل وتعلمت منه الكثير ومازلت، فهو لا يبخل على موظفيه بالنصح والتعليم، استفدت أنا وزملائي من خبرته في العمل الكثير الكثير”.
ويصف بن هندي “هذا الرجل يعشق خدمة البحرين والمحرق، وكل من يدخل مكتبه لا يخرج إلا وهو يحمل على وجهه ابتسامة، وما أعنيه ابتسامة رضا لا يبخل بها عن الآخرين”.
التمدّن وحميمية الأسرة
ما يزعج بوكمال في حياة اليوم ظاهرة التمدن ويقول واصفاً إياها “نقلتنا من حياة الفرجان إلى حياة المدينة، ما أعنيه المدن بمجملها ولا أخص مدينة عيسى فقط، حياة أهل البحرين كما ألفناها من آبائنا وعايشناها في فترات صبانا كانت بسيطة تنضح محبة وتعاوناً، ويسمونها باللهجة المحلية “الفزعة”، كان الجار لا يخشى على أهله من تركهم في البيت ويسافر لأيام حتى إلى خارج البحرين”.
«كان الناس يباتون وبيوتهم مشرعة” يقول بوكمال ويضيف “تلك من صفات عوائل الفرجان في مناطق البحرين كافة، يعني مفتوحة ليلاً ونهاراً، كنا نشعر أن كل بيوت الفريج بيوتنا ندخل ونأكل ونشرب وأحياناً ننام فيها دون حرج، نتعاون في بناء بيوت ونساعد المحتاج حسب قدرتنا، في جيلنا كانت الظاهرة موجودة، وكنا نشعر بالفرح ونحن نقدم الخدمة لجارنا المحتاج ولا نطلب مقابلاً، وكانت كل الأسر واحدة والبنات أخوات لنا نغار عليهن ونحميهن من كل معتدٍ”.
اليوم تبدل الحال وانقلبت الصورة وأصبحت العلاقات يشوبها التفكك و«لا تجد من تأمنه على بيتك وحتى أقرب الجيران صار أكبر عدو ودائماً ما يتربص بك ويتمنى لك الشر ولا يفرح لفرحك ولا تنتظر منه مد يد الخير، يحرض على معاداتك ويرقص لأحزانك” ويتساءل “ما الذي غيّر الحال في البحرين هل التمدّن والمادة دخلت إلى نفوس الناس الطيبة؟”.
ويتابع متحسّراً على الأيام الخوالي “أولادنا لا يصدقون الطيبة التي كانت تحتضن أهل البحرين وفرجانها، عندما كان الجار يقتسم اللقمة مع جاره ويواسيه في أحزانه ويسهر على راحته وراحة أسرته، أنا أعد نفسي من المحظوظين الذين عاشوا تلك الفترة الجميلة وحُرم منها اليوم أبناؤنا”.
لا يقصد بوكمال أن البحرين تبدلت من حال إلى حال “هناك علاقات مازالت موجودة كسابق عهدها، بين أهلها تسود النخوة والفزعة مازالت من سمات أبنائها، فمثلاً في بعض مناطق المحرق والرفاع والبديع وقلالي والحد وبعض قرى البحرين مازالت تحافظ على طابع ابن البلد والفريج ومازالت علاقاتهم أفضل منا نحن أهل المدن”. ويقول “أنا لا استغرب أن العائلة الواحدة لا تلتقي إلا في مناسبات الأفراح أو الأحزان، ما يشعرك بالتفتت العائلي والتباعد بين أهلها حتى أن بعض صغار العوائل لا يعرفون بعضهم البعض، وربما هم أصدقاء في مقاعد الدراسة ويكتشفون بالصدفة أن بينهم صلة رحم وقربى، وقد تكون علاقاتهم في المدرسة أقرب من علاقاتهم في بيت العائلة”.
وتمنى بوكمال من كل قلبه “أن يتخلص المجتمع البحريني من عاداته الدخيلة، وتعود الأسرة والترابط وأيام الفزعة بين أهل البحرين كافة”.