^ حين أقبلت عليه منفرداً استقبلني ضابط الجوازات المصري بالتقريع: «من أين أتيت، هل كنت مختبئاً في الممر، متى حطت طائرتك، أين جوازك، كم رقم الرحلة؟..»، تعمدت التريث قبل أن أجيبه لأنني كنت «نقيباً» ولا أتقبل أن ينهرني «ملازم» ولو كان من فرسان الجيش القيصري. قلت: من الكويت. قال بلهجة سريعة: مفيش في الجدول رحلة من الكويت! ثم اتصل بالبرج وتلقى كلمة واحدة كانت كافية لتنفرج أساريره بابتسامة اعتذار. ولم يعلم أن كلمة (طائرة خاصة) التي سمعها من المراقب الجوي قد تعني أنني كنت مسافر «توصيلة» ونزلت نصف أصم من ضجيج محركات طائرة المقدم عبيد الجويسري لوكهيد هيركوليز C-130 العسكرية العجوز وهي في طريقها إلى لارنكا لجلب قطع غيار. كانت تلك رحلتي الأولى لمصر عام 1992م، وكررتها خمس مرات في العام نفسه، ومازلت أكررها، فرغم عاصفة اللقاء الأول إلا أن أحداً لم يحذرني من شرب ماء النيل. وقليل من لا يحب مصر في الخليج العربي، لكن دوله ليست باستثناء، فالانتخابات في العالم الثالث لا تخلو من تدخلات دول خارجية، لكن تدخلنا هذه الأيام لا يتعدى التمني بفوز من يعتمد عليه لبقاء العلاقات دون توتر ووقف تداعيات كادت أن تخرب ما بيننا. كمنهجية تصعب الإحاطة بتفاصيل موقع الخليج في فكر كل مرشح، ناهيك عن عدم وقوفهم على نفس المسافة من دوله. لكننا نستطيع من تتبع ما صرحوا به من رسم صورة تقريبية لنظرتهم للخليج، وسنأخذ بالمعطيات المتوفرة كنتائج تصويت المقيمين بالخارج التي أظهرت تفوق 5 من إجمالي 13 مرشحاً، وأن الإسلاميين هم الكتلة الأكبر وتنحصر أصواتهم بين أبو الفتوح ومرسي. انشق عبد المنعم أبو الفتوح على الإخوان عندما لاحت له الفرصة -كحال كثير من إخوان الخليج الذين يتبرؤون من تهمة «الإخوانية» بعد اقترابهم من النجاح- وهو معروف بآرائه الإسلامية المعتدلة وأفكاره الليبرالية، وكان رائد جيل التجديد بالإخوان وعضو المؤتمر القومي العربي، وما يهمنا هو وعده بجعل الجيش المصري أقوى جيوش المنطقة مما يقوي العمق الاستراتيجي لنا. يمثل محمد مرسي جماعة الإخوان رسمياً، وقد قال ببناء علاقات متميزة مع الخليج وحماية أمنها وتسهيل مساهمتهم بالاستثمار، والأولوية في المشروعات المتميزة، يرافق ذلك علاقات متوازنة مع إيران على ألا تكون على حساب الخليجيين، حيث عليها أن تحل قضية الجزر، معتبراً أن استقرار مصر امتداد لاستقرار الخليج، وقد نفى تلقي الإخوان أموالاً من الخليج. يناقض ذلك أن دول الخليج كما جاء على لسان مسؤولين أمنيين كبيرين في دولتين منهما مازالت تتوجس خيفة من الإخوان كتنظيم شمولي. فوصول رئيس إخواني هو تقوية للجماعات الإخوانية في الخليج المرتبطة بهم تنظيمياً وفكرياً، يناقض ذلك أيضاً أن الخليجيين أنفسهم متهمون بدعم السلفيين. وموقف هؤلاء في مصر مرتبك ومنقسم، حيث أعلن حزب النور دعمه لأبو الفتوح، وقال حزب الأصالة إنه سيدعم مرسي، فهل نتبعهم ونعود لندعم الإخوان؟ وإضافة إلى الدعم الخليجي له؛ يحظى عمرو موسى بدعم الأقباط وأمريكا وإسرائيل وحتى جزر بيتكيرن «Pitcairn Islands» أصغر دولة مكونة من 4 جزر، وسكانها 50 نسمة من 9 عوائل، ورغم عمله الدبلوماسي لا يتراجع موسى بسهولة عن موقفه، لذلك رفض تعيين الدبلوماسيين الخليجيين في مكاتب الجامعة العربية حتى رحل عنها، لكنه تجرأ على إدانة إسرائيل حتى تغنى بتصريحاته «شعبان عبدالرحيم» فخلق له شعبية شجعته ليقول إنه سيفعل أي شيء ليحمي المصريين من «البهدلة»، وذلك أثناء أزمة المصريين بالكويت، فماذا سيفعل وهو رئيس دولة ومشاكل العمالة تكاد لا تنتهي في الخليج، ليس مع مصر فقط بل مع بنغلادش والفلبين والهند وسواها. لكن عمرو موسى يبقى الديبلوماسي المحنك والمخضرم ورؤاه التي يطرحها تميزه عن الكثير. في الخليج كنا متهمين بحب مبارك واستغلال جشع رجاله، ومتهمين بشراء براءته، وها هو أحد بقايا النظام يدخل سباق الرئاسة، فلماذا لا ندعمه ما دام لا فكاك لنا من تهمة المباركية، ففي سيرة الفريق أحمد شفيق ما يتفوق به على عمرو موسى، فهو المدني- الإداري، والوحيد الذي بخبرة إدارية حقيقية، كما يقول أتباعه، حيث حول مديونية الطيران من 320 مليون دولار إلى ربح 91 مليون دولار، وسدد القروض وحاز ثقة العالم، وله خبرة عسكرية من أربعة حروب، ويفهم أولويات الأمن بكل أبعاده، وهو رجل متدين وسطي، ومنع سفر المسؤولين السابقين وفتح ملفات الفساد وجمد أرصدة كبار النظام السابق، وأفرج عن المعتقلين السياسيين ظلماً. أما حمدين صباحي فأسس حزب الكرامة العربي ومواقفه متشددة تجاه إسرائيل ويؤيد الفلسطينيين، لكنه اعتقل عام 2003 لتنظيمه مظاهرات ضد حرب إسقاط صدام، فهل كان من أيتامه! على خريطة انتخابات الرئاسة المصرية نجد اتفاقية السلام مع إسرائيل أكثر قضايا العرب والخليجيين، لكن التحديات الاقتصادية التي تنتظر الرئيس المقبل كتراجع السياحة وارتفاع النفط ستجبر الرئيس المقبل أن يظهر أن مصر ستبقى كما كانت عوناً استراتيجياً واضحاً للخليجيين إن أرادات أن يكونوا عوناً اقتصادياً لها. ولا شك أن أولويات دول الخليج مختلفة عن أولويات الناخب في مصر، بل إن أولويات الخليجيين أنفسهم لا تتفق على مرشح معين، لكن المصري والخليجي يتفقان على الحاجة لرئيس قوي لن يكون كجمال عبدالناصر، لكنه قادر على أن يحافظ على مساحة التفاهم كما تفاهمت مع الملازم في مطار القاهرة.