كتب - أمين صالح: يرى المخرج لويس بونويل ضرورة أن ينبثق الرمز من المادة السينمائية نفسها، لذلك لم يقع في فخ الرمزية التعسفية، المتصورة سلفاً. إنه يكره الاستخدام المقصود للرموز، مع أنه، كما يقول الناقد أميليو ريرا (Film Culture, Spring 1962)، يمنح شخصياته، على نحو حدسي، قوةً رمزية فعالة جداً إلى حد أنه بإمكان المرء أن يكتشف بسهولة الرموز في كل مكان من فيلمه. في حوار له مع المخرج فرانسوا تروفو، قال بونويل: “ربما أقدّم بعض العناصر اللاعقلانية، تحت ستار حلم ما، لكنني لا أقدّم عن قصد أشياء رمزية على الإطلاق”.بونويل -الذي انتقل العام 1925 من إسبانيا إلى باريس واستقر بها. وهناك برزت ميوله للعمل في السينما، فاشتغل مساعداً للمخرج جان ابشتاين في فيلمين- انضم إلى الحركة السوريالية، التي عنها يقول (كاييه دو سينما، يونيه 1954): “السوريالية علمتني أن للحياة مغزى أخلاقياً لا يمكن تجاهله. عبر السوريالية اكتشفت أيضاً، وللمرة الأولى، بأن الإنسان ليس حراً. كنت أعتقد أن حريتنا مطلقة، لكنني وجدت في السوريالية نظاماً ينبغي أن يُتبع. ذلك كان أحد الدروس العظيمة التي تعلمتها في حياتي. خطوة مدهشة وشعرية. ماذا تعني التجربة السوريالية بالنسبة لي؟ إنها تعني شيئاً واحداً: التضامن الجماعي”. الكوميديا الأمريكية في البداية تأثر بونويل بفناني الكوميديا في السينما الأمريكية. وبالمخرج ستروهايم Stroheim.. “لكن الفيلم الذي ألهمني فعلاً، وجعلني أرى السينما – للمرة الأولى – كوسط فعال في التعبير الفني، كان فيلم فريتز لانغ: المصابيح الثلاثة”. (حوار بونويل مع الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس، مجلة نيويورك تايمز، 11مارس 1973) ويضيف في المقابلة نفسها: “إلى جانب الثقافة الأسبانية، قرأت فرويد، دو ساد، ماركس وأنجلز، ومؤلفات العالِم الاختصاصي بالحشرات جان هنري فابري. ميولي الأدبية متغيرة مثل الطقس”.عمل شاق وحافل بالشكوكيتبع بونويل منهجاً خاصاً في العمل مع كاتب السيناريو، وهو يوضح هذا المنهج أو الطريقة في إحدى حواراته قائلاً: “أحتاج دوماً إلى وجود كاتب ما يتعاون معي في الكتابة. ذلك لوجود عيب أساسي فيّ، وهو التكرار. لو كتبت وحدي سأحتاج إلى ثلاثة أيام لكتابة مشهد واحد، والذي يمكن إنجازه خلال ثلاث ساعات مع وجود كاتب أتحدث إليه وأناقشه. لكن بما أنه فيلمي، فأنا موجود هناك، مع الكاتب، في كل مرحلة” (Show, April 1970)بونويل عمل بالتعاون مع كاتب السيناريو الفرنسي جان- كلود كارييه في كل أفلامه منذ “يوميات خادمة” (1963). في مقالة كتبها كارييه، عن تجربته مع بونويل وعملية التعاون بينهما (المقالة منشورة في مجلة Show, April 1970) يقول كارييه: “بونويل يكشف عن كل شكوك الفنان الخلاق وقلقه أثناء كتابة السيناريو. هو هنا مؤلف أكثر مما هو مخرج. مع ذلك فإن المفارقة تكمن في أنه لا يكتب إلا نادراً وبمشقة. عندما يتواجه مع الكتابة، فإنه يحتاج إلى شخص آخر يتعيّن عليه أن يدوّن بالقلم ما تم الاتفاق عليه بعد مناقشة الأفكار. أنا واعٍ تماماً لحقيقة أن عالم بونويل هو خاص جداً، شخصي جداً، إلى حد أن من العبث، أو من غير المجدي، اقتراح أفكار عليه والتي من المفترض أن تثير حماسته. عندما نواجه صعوبةً ما، فإنه يقترح نصف دزينة من الحلول الممكنة، وإذا هو طلب النصيحة فلكي يتلقى عوناً في اختيار أنسب الحلول. إن مخيلته متألقة وغير محدودة. وحين أعمل معه، غالباً ما يتكوّن لدي انطباع بأنني جمهوره الأول. أحياناً حسه النقدي، الذي هو حاد جداً، يغمر جانبه التخيلي. ويعاني فترات من الإحباط حين يبدو له كل شيء غبياً وطفولياً. في بعض الأحيان هو يحتاج إلى المساعدة لكنس شكوكه بعيداً، ولكي يجد اتجاهه مرة أخرى، ويمنح جانبه التخيلي الهيمنة من جديد. إنه يحب أن يعمل بانتظام لمدة خمس أو ست ساعات يومياً تقريباً. ذلك يعطيني الوقت الكافي لتخطيط ما تحدثنا بشأنه، ثم أكتب الحوار وأطبع المسودة. في المساء، حين نخرج ونرتاد مقاهي مدريد، لا نتحدث عن عملنا على الإطلاق. يفضّل أن يبتهج في حضور أصدقائه في أماكنه المفضّلة. في السيناريو هو يضمّن كل التوجيهات بشأن الملابس أو الديكورات، والتي سوف تساعده وقت التصوير، لكنه أبداً لا يضمّن أي تعليمات أو توجيهات تقنية. يفضّل أن يترك شيئاً للاكتشاف أثناء التصوير الفعلي، قائلاً: لو كان كل شيء مدوّناً في السيناريو، فلماذا نكلّف أنفسنا مشقة تحقيق الفيلم؟”. يقول بونويل إن الفيلم، بالنسبة له، غالباً ما يتحقق في مرحلة الكتابة، فعندئذ تنشأ كل المعضلات التي ينبغي حلها قبل الشروع في التصوير.أما بالنسبة للمادة أو القصة، أحياناً يختار موضوعات مباشرة، وأحياناً يلجأ إلى الإعداد من قصص وروايات مطبوعة.. الصدفة هنا هي التي تحكم. والقصة، عند بونويل، غالباً ما تُبنى من صور غير مترابطة.الذاكرةيقول بونويل: “أفتقر كلياً إلى الذاكرة الذهنية. بالنسبة لي، الأشياء تصبح حية فقط بفضل الذاكرة البصرية”.الاعتزالكان بونويل في سنواته الأخيرة، بعد الانتهاء من كل فيلم يخرجه، يتعهد بأن يكون فيلمه الأخير.. تماماً مثل المخرج السويدي إنجمار بيرجمان. ابتدأ هذا منذ العام 1967 عندما أعلن بونويل بعد انتهائه من فيلمه “حسناء النهار” بأنه سيتوقف ولن يحقق بعد اليوم أي فيلم آخر. مع ذلك هو استمر في تحقيق الأفلام حتى العام 1977.. كان يقول:«لا أريد أن أستمر في تحقيق الأفلام لمجرد كسب الرزق. إذا لم يبق من عمري غير عام واحد، فإنني لن أبدّد وقتي في العمل، بل سأستمتع بالحياة. سأرغب في رؤية أصدقائي، وأن آكل وأشرب، أو أجلس بهدوء في غرفتي أراقب الذباب يئز حولي، أو أتطلع إلى حذائي”.
970x90
970x90