بقلم: زياد عودة: التجربة الأولى في حياة كل مُبدعٍ لها خصوصيتها، وجمالها، وأبعادها التي لا يُدركها إلاّ من عاش تلك التجربة، وأطلقها، وهو يُدرك خطورة ما يُقدم عليه.إنّها مغامرة حقيقية، قد تقفز به إلى الأمام، أو تؤخره بضع خطوات، أو تجعله يقف مكانه ليحاول من جديد. وأخطر من هذا كلّه، أن ينطلق المبدع من أرضية رخوة، غير طبيعية، وخاصةً، حين يكون سجيناً في زنازين الأعداء المعتمة، لا يكاد يرى شيئاً حوله، بعد أن أُبتلي باحتلال وطنه، وأرضه، فلم يعد ممكناً أن يتحرك بحرية مع أبناء شعبه، فوق ربوع وطنهم، حتى الأحلام ممنوعة عليهم، وهم نيام، فما أقساها من حقيقة، وما أبشعه من واقع.. وأيُّ واقع مظلم هذا..؟.لكنّ، إرادة الشعوب المقهورة أقوى من الجلاّدين الذين كانوا ومازالوا يزرعون الموت في كل اتجاه من فلسطين المحتلة، فكم سقط من شهداء، زُرعوا في أرض الخلود، ليصيروا ذكرى مؤرقة، تُؤجج نفوس أبناء شعبهم، الباحثة عن الحرية، وفي كل يوم ضحايا جدد، تروي ثرى الوطن السليب، وجرحى، ومعتقلين من جميع الفئات والأعمار وأصحاب المهن المختلفة، ليتوحدوا في نهر الحرية العظيم.عمر في السجون فلم يسلم الشعراء، وهم صوت الأمة الملهم، من زجهم في غياهب السجون، ولكن صوتهم اخترق الجدران والأسلاك الشائكة؛ لينطلقوا من جديد في فضاءات وطنهم، يبشرون الناس بالأمل، والانعتاق من قبضة الاحتلال، فعلى امتداد خارطة الوطن الفلسطيني، تم اعتقال عشرات الشعراء، وعلى رأسهم محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زيّاد وعبدالناصر صالح وعلي الخليلي..الخ، وكان صوت فدوى طوقان يدوي ويجلجل في كل مدينة وقرية، مما كان يزعج الأعداء الذين قالوا: مع كل قصيدة تلقيها فدوى طوقان، يولد 10 فدائيين، وكانت مرشحة لأن تكون سجينة، لولا مكانتها الأدبية الكبيرة في العالم، ورغم هذا لم تسلم من استدعاء وزير الحرب الإسرائيلي موشيه ديان، ليطلب منها أن تخفّف من إحياء الأمسيات الشعرية، ولكن لم تكن تُعير هذا الطلب ـ الرجاء ـ اهتماماً؛ فالوطن فوق كل اعتبار.ولم يسلم من الاعتقال الشاعر عبدالناصر صالح، الذي كان صبياً في العاشرة من عمره، حين احتل الغزاة الضفة الغربية، وقد شاهد بأُم عينيه على مرِّ الأيام والسنين، ما نمى في نفسه، الكراهية لأعداء بلده الذين حرموه حريته، وسلبوه الأمن والأمان.فكان الشعر طريقه إلى المقاومة، وهو ابن الشاعر الفلسطيني الكبير محمد علي الصالح، رفيق أبي سلمى وإبراهيم طوقان وعبدالرحيم محمود؛ فتعلم منه نظم الشعر، فكانت كلماته نوراً وناراً، ولم يكتف بذلك، بل عمل على أن يقرن القول بالعمل، فشارك في المظاهرات، وفي التحريض ضد أعداء الوطن، ولم يتم عقده الثاني بعد، ومن خلال سيرته الذاتية، يتبين لنا أنه أصيب في مظاهرات العام 1976، حيثُ أُدخل المستشفى للعلاج، وبعد خروجه تعرض للاعتقال والمطاردة، واعتقل العام 1977م، وحكم عليه بالسجن، بتهمة الانتماء لحركة فتح.التجربة الأولى وفي السجن قام بكتابة ديوانه الأول: «الفارس الذي قُتل قبل المبارزة»، الذي صدر العام 1980، وهو ديوانٌ جديرٌ بالقراءة الجادة.فكما ذكرنا في بداية مقالنا: «التجربة الأولى في حياة كل مبدع، لها خصوصيتها، وجمالها، وأبعادها، التي لا يدركها إلاّ من عاش تلك التجربة»، ولعلّ تجربة عبدالناصر، هذه، كانت فريدة من نوعها؛ فقصائد ديوانه «الفارس الذي قُتل قبل المبارزة»، يشكل الخطوات الأولى في تجربته الشعرية، نلمس فيها البساطة، ولكنها غنية بكل ما يُريد أن يُعبّر عنه، وهو سجين يتوق إلى فضاءاتٍ واسعة.ومن أجل هذا، لمع اسمه مبكراً، وانتشرت قصائده، حتى قبل طبعها في الديوان، على ألسنة الناس، الذين كانوا يرزحون بقوة، تحت وطأة الاحتلال، فكانت قريبة منهم، لأنها عبّرت بصدق وعفوية عمّا يعانون منه.وقد أهدى ديوانه: «إلى الذين يموتون قبل مجيء الوقت، والذين يولدون بعد فوات الأوان بحثاً عن الحلقة الموصلة»، واستشهد بهذه الكلمات لِ إميليو ترابيز _ شاعر نيكاراغوا:«عند باب الزّنزانَة، يَنتهي الزّمنُ الخارجيّويبدأ الزّمنُ الدّاخليّ..». في القصيدة الأولى «كتابة على جذع زيتونة»، يسجّل، من زنزانته، هذه الكلمات:« الليلةَ أيقظني حُزني /مثل بريقِ الموتِ القادمِ في الليل أيقَظني،ما زلتُ أردّدُ آيات الخوفِوآياتِ الغربهْ / وأحنُّ إليكِ /في الليلِ أحنُّ إليكِ وأبكيكِعلى سطح القريةهذا القلبُ حزيناً صار، حزيناً كغصونِ الزّيتون المصْفَرّهْ». (ص9). فالزيتونة بالنسبة للفلسطيني، رمزٌ للقوة والصمود، للعطاء والأمل، وجذعها الضارب في أعماق الأرض الحنونة، حيثُ يمضي الشاعر قائلاً:«وجهُك لا أعشقُ غيرَهْ،لا أعرفُ في الوحدةِ غيرَهْ..الليلةَ طافت فوق جبيني أسرابُ الغربانِتحدّثني / وتبشّرُ قلبي بالجوعِ وبالمنفىوكأني في حُلُمٍ في غُربه». (ص9، 10). وفي نهاية القصيدة، ومن قمة الحزن يطل علينا الشاعر قائلاً: «كيف أمرُّ بدرب الدّمع، الليلةَ أيقظني حُزني وبكيتْ..كشراعٍ ضَلَّ عن المرفأ والشطآنْ.. أيقظني،ما عدتُ أطيقُ الغربةَ /يعلم شجر الزيتونِ بأنيما عدتُ أطيقُ الغربةَ والهجرانْ». (ص12، 13).فضاءات الحريّة نعم، السجن غُربة وهُجران، السجن بالنسبة للإنسان الحرُّ قيدٌ وظلام، فمن فضاءات الحرية، إلى قُيود السجن، علامة فارقة وكبيرة، وخصوصاً إذا كان السجين يطالب بحقه المشروع في العيش في وطنه حرّاً، كريماً، عزيزاً، فلا يدرك مرارة السجن، إلاّ إنسان يُخطط من أجل الانعتاق من قيود العبودية، ليجد نفسه، وقد أُعتقل في زنزانةٍ مظلمة، لتزيد من آلامه وأحزانه.وفي قصيدة «الفارس الذي قُتل قبل المبارزة»، والتي حملت عنوان الديوان، يبدأ الشاعر بالتعريف بالقصيدة قائلاً: «الإنسان لا يصرخ عادةً إلاّ حين تكون مساحة الجرح أكبر من مساحة الطّعنة، ومقدار دموعه أكبر من مساحةِ عينيه»، صورة موفقة، أبدع الشاعر في تسجيلها ويسجل في قصيدته ما يعتمل في صدره، من حزنٍ كبير، حيث يقول: «الليلُ يخيّمُ في أفُقي ويموتُ حنيني /وتضيعُ البسمةُ في الشفتينِ، يجوعُ النورُ الآتي من عمق عُيونييا سرَّ الليل أنا أبكي والدمعُ غزيرْ وَبيارقُ أهلي، وبُيوتُ الطّين الأَثريَّهْ،لم يبقَ سوى هيكل أيّامي المَنسيَّه». (ص43). كلماتٌ رومانسية اختلط فيها الواقع إلى درجة الوجع. وأتوقف عند قصيدة «رسائل سجينة»، يُسجل فيها الشاعر مشاعر إحدى السجينات اللواتي اعتقلتهن قوات الاحتلال، حيثُ تمّ وضعها في أحد السجون، وصار حالها كحاله، تنشد للحرية والحياة، وتُناجي أمها:«أُمّاهُ يا لحنَ النّهارْهل تسمعين؟القلبُ يخفقُ والتشّوقُ والحَنينْأُمّاهُ.. ليتكِ تسمعين ندائيَ الملهوفَ يخترقُ الجدارْيأتي إليكِ مع الطيورِ الباكياتِ على الدّيارْيأتي معَ المطرِ المحلّقِ،فوق أطلالِ المآسي والأَلَمْ أمّاهُ يا أحلى نَغَمْ». (ص21، 22).صورة مأساوية لفتاةٍ تناجي أمها أو لشاعرٍ سجين يناجي أمه من عتمة السجن.وهكذا، يمضي بنا الشاعر في قصائده: شوقاً وحنيناً، وترقباً للمستقبل المجهول الدامي، وإن كانت الأقدار قد كتبت للشاعر أن يخرج من سجنه، بعد أن عانى ما عانى، فإنّه، في النهاية، يأمل بأن يرحل المحتل عن ربوع وطنه الحبيب؛ حتى ينعم أبناء وطنه بالحرية والعزة والكرامة، بعد أن طال ليل الاحتلال.إنّها قصائد تجاوزت أسوار السجون، إلى فضاء الحرية الرحب، إنّها صوت عبدالناصر صالح، طائر الفينيق الفلسطيني السجين.
970x90
970x90