كتب - علي الشرقاوي:
بيت بوحيمد، أحد البيوت الكبيرة في فريج الفاضل، شخصياً أعتبره قلعة، حين تدخله كأنك تدخل قلعة محصنة بأسوار عالية، وبيوت من الحصى، ربما هو أكثر من ذلك ربما كانت تسكنه أكثر من عائلة، مدخله مظلم وبه درج يقود إلى الأعلى.
بيت بوحيمد يطل على شارعين، شارع أبو العلاء الحضرمي، أهم شوارع فريج الفاضل، وشارع لا أعرف اسمه، يمتد من خلف بيت المستشار بلجريف، وبيوت الزامل، إلى بيوت جاسم لوري، التي تقابل بيت التاجر إبراهيم العوضي. وأذكر من أبنائه التاجر المعروف يوسف العوضي الذي كان زميلي في مدرسة رأس الرمان الابتدائية.
إلى الآن لا أذكر عدد الأبواب الداخلية التي يحتويها هذا البيت القلعة، من جهة شارع أبوالعلاء الحضرمي، يقابل بيت فهد العجاجي، أما الجهة الأخرى فهو يقابل بيت القاسمي، صاحب متجر القاهرة، ومن أبنائه محمد وعبدالإله القاسمي. ثم بيت إبراهيم قمبر، وأبنائه شوقي وفريد ونبيل وشوقية وخليل وجلال وشهناز. وبعد أن كبرنا عرفت في مدرسة الثانوية للبنين في القضيبية
أن لإبراهيم قمبر ابن أكبر من زوجته الأولى، وهو حسن قمبر، الذي كان مشرفاً على المختبر ثم بعدها سمعت أنه صار مديراً لأحد المدارس. كان حسن قمبر من أوسم المدرسين الذين التقيتهم في حياتي المدرسية، بالإضافة إلى دماثة الخلق التي عرف بها.
وعلى امتداد بيت بوحميد، أذكر من البيوت، بيت فاطمة شرف وبيت علي زين الدين، فتوة الفريج، حيث لا يمكن أن يمر في الطريق غريب لأكثر من مرة إلا واعترض طريقه ليسأل عن سبب مروره، كذلك كان هناك بيت الحمر “بيت سرخو” حيث كان ابنهم محمود أحد أصدقاء الطفولة آنذاك. وكان يقابل بيت زين الدين، بيت القاضي، وهو أيضاً في مساحة القلعة بالنصية لنا في تلك الفترة.
ما يهمني من بيت بوحيمد هو الحوطة، وهي تقع خلف البيت العود، مقابلة لبيتنا وبيت يوسف مبارك أجور. وملاصقة لكل من بيت ياسين ملا أحمد وبيت يوسف فخري، وهو أحد البيوت التابعة لقلعة بوحيمد.
سمبوسة عبدالقادر
أول علاقة لنا بسمبوسة عبدالقادر، من خلال الدكان الذي كان تابعاً، لا أذكر بالضبط، هل كان تابعاً لبيت زين الدين أم كان لبيت فاطمة شرف، زوجة المرحوم عبدالله التاجر التي كانت تسكن في الطابق العلوي، فاطمة شرف كانت والدة رفيق الصبا، محمد التاجر، وحيد أمه، حيث إن كل إخوته بنات، كان محمد التاجر أحد الفنانين الموهوبين في عزف الناي “الماصول”، المزمار، والذي كان ينافس فيه فريد قمبر المهتم هو الآخر بالعزف على المزمار، ووصل في عزفه إلى درجة محترمة من الإتقان، خاصة أغاني فريد الأطرش، ومنها أغنية “وحداني حاعيش كده وحداني” ولكنهما لم يواصلا العزف. فحرمانا نحن أقران الطفولة عن متابعة عزافين من الممكن أن يكونا فريدين في هذا المجال من العزف الفني الراقي.
نعود إلى سمبوسة الخضرة التي يقوم بطهيها الهندي عبدالقادر، كانت من أهم الأكلات الشعبية التي نشتريها للعشاء، أو لفطور الصباح، أو ما بين الوجبات، خصوصاً في الفترة بين العصر والمساء.
بعد فترة انتقل عبدالقادر بمطبخ عمله إلى جزء من بيت بوحيمد في الجهة المطلة على شارع أبوالعلاء الحضرمي والملاصق لنادي التضامن، والكثيرون لا يعرفون حكاية الانتقال.
حكايتي مع حوطة بوحيمد
كنا صغاراً لاهين نلعب الكرة أمام بيت يوسف مبارك أجور، بيت أم يعقوب، وبيتنا، المقابلين مباشرة لحوطة بوحيمد المرتفعة الجدران. اللعب على أشده والعرق يكاد يدخل الأنف، أحدنا “شاط” الكرة فارتفعت وسقطت داخل الحوطة، باب الحوطة مقفل، والقفل أصابه الصدأ منذ عدة سنوات، وحيث إنه لا يمكننا التوقف عن اللعب، ما كان أمامي ـ أنا الأخف من وزن الريشة إلا التسلق على الجدار، عن طريق العمود الملاصق لبيت ياسين ملا أحمد، والذي تركوه بعد أن ذهبوا إلى القضيبية، وقامت باستئجاره عائلة محمد إسماعيل (بيت الشمل) لعدة سنوات.
عن طريق الأقلمة، عمود النور الخشبي، صعدت إلى سقف بيت ياسين، ومنه سرت على “الطوفة”، للبحث عن أسهل مكان للنزول، في الحوطة، شاهدت العديد من “الكوارتين” الورقية، المملوءة بمجلات منتفخة، بفعل الماء الذي تسرب منها، ولا أذكر من هذه المجلات إلا مجلة صوت البحرين. المجلة التي ظلت تصدر لعدة سنوات.
ومجلة صوت البحرين مجلة كما كان يطرحه شعارها، بمثابة ملتقى الشعراء والكتاب الخليجيين والعرب وبها أقسام شبابية خدماتية ترفيهية دينية منوعة، وهي أول مجلة سياسية وثقافية، استقطبت العديد من الكتاب والشعراء العرب في أول الخمسينات وقد تأسست العام 1950 وأغلقت العام 1954م. وشارك في تأسيس مجلة صوت البحرين مجموعة من مثقفي تلك الفترة منهم الصحافي محمود المردي وإبراهيم حسن كمال وحسن الجشي، وشارك في الكتابة فيها كل من علي سيار بمقالات قومية، ثم تربوية وفلسفية وعلمية وغيرها، واستمر في الكتابة حتى توقف المجلة 1954. وكان الشاعر تقي البحارنة الذي كان يكتب فيها كثيراً من المقالات المتنوعة السياسية والقومية والأدبية وكذلك أدب الرحلات. بالإضافة إلى كتاب من أغلب الدول العربية، وكان شاعرنا بوحيمد واحداً من الشعراء الذين يتواصلون مع المجلة.
عمرو بن أبي ربيعة
يخرج من الحوطة
وأنا أفتش في الكم الهائل من الكتب والمجلات، وإذا بديون عمرو بن أبي ربيعة المخزومي ينظر إليّ بشغف، ويناديني، اقتربت منه بحب، وبدأت بتقليب أوراقه، كانت الأوراق تحمل إثر رطوبة، أدت إلى انتفاخ الأوراق، نظرت إلى القصائد، كانت مكتوبة بخط واضح، قرأت ولم أعرف ما تعني، المهم إن شكل صف القصائد أبهرني.
واستحوذ على فكري.
صحوت على صوت لصبيان انتبهت لصراخهم، أبحث عن الكرة، أجدها بين أكوام الكوارتين، أحذفها لهم، وأعود لمواصلة تصفح الكتاب. هل آخذه معي، هذا يعتبر سرقة، ترددت عدة لحظات، حيث إن السرقة حرام، ولكن الكتاب مهجور، ولا أحد سيعود إليه وهو من كثرة ما أهمل بدأ في الانتفاخ كالجثة المتعفنة التي مر على وفاتها فترة طويلة من الزمن، إذا هو ميت ولا أحد سيسأل عنه، قلت لنفسي خذه فالله لا يحاسب أحداً يرغب في المعرفة، وإن كان كذلك، سأكفر عن ذنبي بفعل شيء جيد للناس.
الوصول إلى هذه النتيجة أشعرني بشيء من الراحة، أخذت الكتاب معي، أعني سرقته، وصعدت على السور ونزلت إلى الشارع، لم أستطع مواصلة لعب الكرة من الأصدقاء، دخلت البيت، لأقرأ في الكتاب الذي لا أفهم معناه، ولتبدأ صفحة جيدة من حياتي، هي الكتابة على شكل قصائد عمرو بن أبي ربيعة.
من هو ابن أبي ربيعة
في موسوعة ويكيبيدا نقرأ شيئاً عن هذا الشاعر الذي انتقاني من دون كل الأصدقاء، في مكان مجهول، هو الحوطة التي لم يتعرف عليها أحد كما عرفتها شخصياً. تقول الموسوعة: عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي أبوالخطاب شاعر قريش وفتاها، وهو أحد شعراء الدولة الأموية ويعد زعيم المذهب الفاحش في التغزل (ولد في 643 وتوفي في 711. هو أرق شعراء عصره، من طبقة جرير والفرزدق وأيضاً الأخطل، ولد في الليلة التي توفي بها عمر بن الخطاب. فسمي باسمه وقال الناس بعد ذلك زهق الحق وظهر الباطل لشعر ابن أبي ربيعة المتحرر وتقي بن الخطاب.
وهو عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. من بني مخزوم إحدى بطون قبيلة قريش.
وقد شب الفتى عمر على دلال وترف، فانطلق مع الحياة التي تنفتح رحبة أمام أمثاله ممن رزقوا الشباب والثروة والفراغ. لها مع اللاهين وعرفته مجالس الطرب والغناء فارساً مجلياً ينشد الحسن في وجوه الملاح في مكة، ويطلبه في المدينة والطائف وغيرهما.
رأى في موسم الحج معرض جمال وفنون، فراح يستغله إذ يعتمر ويلبس الحلل والوشي ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج. ويلقى الحاجّات من الشام والمدينة والعراق فيتعرف إليهن، ويرافقهن، ويتشبب بهن ويروي طرفاً من مواقفه معهن. وشاقته هذه المجالس والمعارض فتمنى لو أن الحج كان مستمراً طوال أيام السنة:
«ليت ذا الدهر كان حتماً علينا ... كل يومين حجة واعتماراً”
ومما يروى أن سليمان بن عبدالملك سأله: «ما يمنعك من مدحنا؟». فأجابه: «أنا لا أمدح إلا النساء». وقد وصف في شعره النساء وطرافتهن في الكلام وحركاتهن وبرع في استعمال الأسلوب القصصي والحوار وتتميز قصائده بالعذوبة والطابع الموسيقي وقد تغنى كبار الموسيقيين في ذلك العصر بقصائد هذا الشاعر. جعل من الغزل فناً مستقلاً. وكان يفد على عبدالملك بن مروان فيكرمه ويقربه. كتب عمر ديواناً كله في غرض مدح النساء باستثناء أبيات قليلة في الفخر.
كان عمر بن أبي ربيعة على جانب من الإعجاب بنفسه. وفي العديد من قصائده يصور نفسه معشوقاً لا عاشقاً والنساء يتهافتن عليه ويتنافسن في طلبه بل إنه يتحدث عن «شهرته» لدى نساء المدينة وكيف يعرفنه من أول نظرة قائلاً:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى؟
قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها
قد عرفناه وهل يخفى القمر
عن عائلة بوحيمد
ترد سارة بوحيمد في حوار معها لـ«الشرق الأوسط” على عدة أسئلة منها:
* ماذا تذكرين من طفولتك؟
- ما أذكره من طفولتي كان بعد انتقالنا من الخبر إلى البحرين التي بقيت فيها حتى سن 13 عاماً، فكان والدي ممن هاجروا من السعوديين بحثاً عن لقمة العيش بالعمل في التجارة حتى أصبح من كبار التجار آنذاك، ليقرر العودة إلى الرياض في سن 13 عاماً رغبة منه في قضاء ما تبقى له من عمر في موطنه، والتي كان حينها بداية افتتاح المدارس التعليمية.
* كثيراً ما تذكرين شقيقك الشاعر ناصر بوحيمد لدوره عليك في تعزيز الجانب الثقافي لك، والذي قام بإرسالك إلى بيروت للدراسة في إحدى المدارس الإنجليزية، ومن بعدها تسجيلك في كلية الفتيات في بيروت، أين أنتما الآن من كل هذه الذكريات؟
- يقيم أخي حالياً ولأكثر من خمسين عاماً في ميونخ بألمانيا بعد أن عقد قرانه على إحدى النساء من هناك، من أجل ذلك لقاءاتنا قليلة، وقد بلغ الآن 70 عاماً، وإن اجتمعنا نكتفي باسترجاع ذكرياتنا ومناقشة ما يُكتب في الصحف ويُطرح في وسائل الإعلام.
الشاعر ناصر بوحيمد
إن الشاعر ناصر بوحيمد صاحب ديوان (قلق) الذي صدر العام 1962 عن دار الكاتب العربي ببيروت، يعتبر من رواد الشعر الحديث؛ وقد نشر عدداً كبيراً من القصائد في مجلة الأديب اللبنانية (1952-1965) ثم توقف بعدها.
ناصر بوحيمد ولد في 1931 في الرياض، ودرس في البحرين، وله ديوان شعر بعنوان. ومن قصائده:
«أنا في جبينكَ يا غدُ
حُلمٌ تداعبه يدُ
وعلى جفونكَ فتنةٌ
وعلى سمائك فرقد
لي منكَ يا غدُ نشوة الْـ
ـعُشّاق ليلةَ عربدوا
وعلى فؤادكَ خفقةٌ
وعلى ثراكَ توسُّد
وعلى قلوب الثاكلا
تِ، توجُّدٌ وتنهّد
وعلى شفاه الغانيا
تِ، قصيدةٌ تتردّد
أنا يا غدي قلبُ الحيا
ةِ، ولحنُها المتوقّد
ها تلك في أغواركَ الظْـ
ـظَلْماءِ تومئ لي يد”.

«آفاق»
«ضاقت بنا الآفاق
يا أيها العملاق
في عالم ليس به
حب ولا أشواق
الناس فيه صور
ميتةُ الأحداق
ليس على وجوههم
بِشْرٌ ولا إشراق
مات الوجود فيهم
وجفّتِ الأعماق
فؤاديَ الخفَّاق
ضاق به الحسُّ
لم يبق عندي أمل
لم يطوه اليأس”
****
«قلق»
«من ذا الذي يطرق نافذة بيتي
الظلام الرهيب
يكفنني بجلبابه
منزلي على قارعة الطريق
يرصد العابرين في قلق
والمدلجين في ذعر”
مسرجتي قد أطفأتها العاصفة
ونقرأ عن بوحميد: “يقول نص بوحيمد؟ «بمَ تحلمون؟ / يا أيها المتسكعون / الجائعون المتعبون/ أجفانكم فيها ابتهال / وعلى شفاهكم سؤال / وعلى الجباه الصفر/ شيء لا يقال / بمَ تحلمون؟» . نجد أن الشاعر بوحيمد يلجأ إلى أسلوب خطابي عالي النشيد من خلال الاعتماد على تفعيله الكامل، فهي توحي بنبوءة المصير المجهول خيره من شره
ماذا يقول ناصر بوحيمد الذي لم يقطع نشيده الذي سيتجدد عبر نداء تفجعي آخر: «يا أيها النفر الجياع / المدلجون بلا ضياء / العابرون على السهوب / بلا متاع / بم تحلمون؟/ يا أيها الراعي الكئيب/ المستظل على الكثيب / أطفالك الزغب الهزال/ الهائمون على الرمال / بمَ يحلمون؟/ .
إن ما يتبادر إلى ذهننا ثالوث النحس الإنساني - كما يصفه ابن إدريس - عبر عناصره الثلاثة: الفقر، الجهل والمرض ، فيما تتفاوت الدرجة، درجة عناصر مضي هذا الثالوث، إذا انتقلنا من نص بوحيمد إلى نص الشهري مم بدأت به في الفقر، إنما نحو البؤس والتعب”.