أحمــــــــــــــد جاســـــــــــم

لا أريد تفويت هذه التجربة الفريدة المريرة التي ألمّت بي نتيجة إجراء عملية جراحية في أنفي الأسبوع الماضي، إذ استدعت العملية أن يُكتم النفس من الأنف بقطعة بلاستيكية شفافة إلى حين برء الجرح لمدة ستة أيام كاملة بما يعني 144 ساعة متواصلة وأن أتنفس من فمي فقط !!، كنت أحسبها سهلة عادية فإذا بالشراب والطعام - يتزاحمان أثناء الطعام – فلا يجد الهواء له مخرجاً، فربما خرج الطعام بغصة وربما ساح الماء من نفس المكان الذي دخل فيه، هل سمعتم المقولة الدارجة المشهورة : شربت الشاي ساخناً حتى طلع من (خشمي)! هكذا أنا .. لكنه لم يخرج البتة ! أما نبرة الصوت ففي خفوت تدريجي وقد تضاءلت قوته أكثر من خمسين بالمائة فلم يعد الناس يسمعوا كلامي واضحاً، فمخارج الحروف بلا هواء كآلة الناي بلا فتحات !! (إن صح هذا التشبيه الغريب!) .
أما معاناة النوم فحدث ولا حرج، وتخيل نومتك بنفس من الفم لوحده! فكم مرة أيقظني الجفاف في منتصف الليل لأتحسس حلقي الذي أجدبت سهوله وجف ماؤه، حتى اضطررت لوضع كوب من الماء ينقذني من المجاعة كل نصف ساعة! بل إن كثيراً من الأحيان – وبالرغم من عدم رغبتي في النوم – ونتيجة الضغط الناشئ من كتم النفس كنت أضطر للنوم في أوقات غير التي تعودت عليها وذلك هروباً من الضيق الذي كان يلازمني وخوفاً من هجوم الصداع الذي سيزيد الطين بلة.
وفي اليوم الموعود لإزالة قطعة البلاستك على يد الدكتور الماهر هشام السعد - غفر الله لك على فزاعة قطعة البلاستك! - كان الفرح والزهو، وانقض الهواء على قفصي الصدري انقضاض الطفل الجميل الوديع الذي ركض لأبيه من بعيد فنط عليه واحتضنه وشمه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه (تشبيه من وحي المرض) .. إنه الهواء، إنه النعمة التي لم نشكر الله عليها حق الشكر، إنه الأكسجين .. السر الذي لم أتحقق من فوائده إلا مع حرمانه، فلولاه لتبعثرت مخارج الحروف، ولولاه لضعف الحفظ والتركيز ولولاه لتخبط العقل وداخ وتراجع، ولولاه لذهبت شهية الأكل، ولولاه لما تفنن الشعراء في مدح روائح الطيب والزهور، ولولاه لما طربتم لقراءة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد (يرحمه الله) وهو يجود الفاتحة وجزء من البقرة بلاتوقف وبالمدود مع نفس واحد طويل، ولما شنّفتم الآذان لموّالات أم كلثوم وآهاتها الطويلة المديدة، ولما صدح مغني الأوبرا بذلك الصوت الطويل الذي يفرقع قاعات العرض، فلك الحمد يارب .
قطرات :
وإذا مرضت فهو يشفين
«الشعراء 80»
نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ
«حديث شريف»
ومن يك ذا فم مُر مريض
يجد مُرّا به الماء الزلال
«المتنبي»
الجسم السليم مضيف
والجسم السقيم سجّان
«فرنسيس بيكون»
لا تعرف قيمة الصحة إلا عند فقدانها
«مثل روسي»