^ ما كنت أحسب أن نحيا إلى زمن يتنكر فيه العروبيون إلى العروبة ويتحدثون فيه بلغة الفذلكة التي يشيدون فيها بالوحدة كماهية “ميتافيزيقية” متعالية وكحلم نظري، ويرفضونها واقعاً وإنجازاً في ذات الوقت الذي يستكثرون فيه وصف خليج العرب بالعربي، مخافة إيذاء مشاعر رفاقهم في درب المناكفة! وما كنت أحسب أن نحيا إلى زمن يستظل فيه اليساري التقدمي الديمقراطي بمظلة الأحزاب الدينية الطائفية، ويتحدث بلغة الفذلكة الإيرانية الجديدة ويتماهى معها هدفاً ومقصداً، ولكن ما الحيلة فهذا هو الواقع الجديد بكل ما فيه من مؤلمات محزنات، ومن مفارقات غير مسبوقة في تاريخ النضال الوحدوي، بل وحتى في تاريخ الوطنية العربية في رفضها وعدائها للتدخل في الشؤون الداخلية للأوطان. قبل استعراض بعض هذه الفذلكات السخيفة من حقنا أن نتساءل عن دخل إيران في البحرين أو في غير البحرين وفي الاتحاد أو في غير الاتحاد، في الثورة أو الديمقراطية أو الفوضى، فهذا أمر يفترض ألا دخل لها فيه، وأن كلامها وتصريحاتها وتصويتاتها السخيفة لا تستحق حتى الرد عليها، ولكن لأن لهذه الفذلكات صدى عند البعض في الداخل وكأنها محلي، فلا بأس من استعراض بعضها، فمنها تلك التي يعيد استخدامها وإنتاجها أتبعهم في الخليج العربي- وهم يتحدثون عن الاتحاد- مثل” معارضة الاتحاد بدعوى الحفاظ على السيادة الوطنية” وكأنما الاتحاد نقيض للاستقلال الوطني، ومنها جعل الاتحاد مرادفاً لــ« الابتلاع”، وهم أول من يعلم أن الاتحاد –إذا ما حصل-لن يمس استقلال أو سيادة أي دولة ولا نظامها السياسي ولا دستورها ولا الحقوق المكتسبة ولا الحريات العامة والخاصة، لأنه أقرب إلى الاتحاد الأوروبي الذي فيه الكبار- في حجم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا- وفيه الصغار في حجم بلجيكا وسويسرا، وفيه الصغار جداً في حجم لوكسمبورغ، وفيه الممالك وفيه الجمهوريات، وفيه أنظمة برلمانية وأخرى رئاسية وثالثة خليط بين النظامين، بل وفيه يحكم يمينيون، ويساريون ووسط ائتلافات مختلطة، ومع لم يشتك أحد منهم قط من الذوبان أو ضياع السيادة والاستقلال، لأن الاتحاد ليس حالة اندماجية ابتلاعية، بل هو تشابك للمصالح وتبادل للمنافع وتسهيلات للمواطنين وتقوية للدفاع المشترك وردع للأطماع الخارجية وتقوية للتفاوض مع الخارج في كافة المجالات. ومن الفذلكات الإيرانية التي يتبناها التبع المحليون أيضاً “ضرورة استفتاء الشعب حول الاتحاد”، وإن كنا لسنا ضد الاستفتاء من حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي لم يقم على أساس استفتاء وإنما على أساس إرادة سياسية مشتركة، فإن هذه الفذلكة الأخرى يمكن التعامل معها بهدوء ودون إشكالات، لأننا على يقين بأن أغلبية أبناء البحرين -شيعة قبل السنة- سوف يوافقون على هذا الاتحاد دون تردد، باستثناء الـ 15 ألفاً الذين شاركوا في المسيرة المضادة للاتحاد تناسقاً مع الدعوة الإيرانية، ولا ندري وقتها ماذا سيقولون؟. أن يكون هنالك جدل حول الاتحاد وشكله وتحدياته ومنافعه ومضاره والمخاوف التي يمكن أن يثيرها عند البعض، فهذا من طبائع الأمور، بل هذا من طبائع الشعوب الحية، ولا لوم على من يناقش الأمر المصيري بروح العقل والتوازن، ولكن من داخل الرؤية الصميمة المنسجمة مع حلم هذا الشعب وتطلعاته المشروعة للحرية والعدالة والوحدة، أما أن تتنادى أصوات كأنها الغربان إلى النواح والهياط والمياط ضد الحلم المشروع الذي حلمت به شعوب الخليج منذ نشأة دولها الحديثة، فذلك أمر لا يدعو إلى الاستغراب فحسب من صيغته وتوقيته وتناسقه التام مع السياسات الإيرانية الوقحة، ومع التدخل السافر في شؤون الخليج وأبنائه، بل إنه يدعو إلى الاندهاش من حالة الهيستيريا التي أصيبت بها هذه الجماعات والقيادات، فجأة بعد التهديدات الإيرانية الخارجة عن النص والقيم والبروتوكول والأعراف، هذه الهيستيريا التي بلغت درجة لم يعد معها التمييز بين ما هو لصيق بالوجود والهوية وبين تكتيكات السياسة المتقلبة. إن المعطيات الموضوعية تفرض الاتجاه نحو الاتحاد ولو تدريجياً، ولكن بقناعة تامة من الشعوب، فالتواصل الجغرافي والاجتماعي والتاريخي وحاجة الشعوب الماسة لبعضها البعض، وتَشارُكُها في التطلعات والطموحات، واقتناع الساسة بأن استقرار السلطة لن يكون إلا بالتجاوب مع حاجيات الشعوب ومنها الاتحاد، جميعها عوامل داعمة لفكرة الاتحاد ومعجلة به، ولكن هذا الاتحاد الذي يطمح له الجميع -باستثناء 15 ألفاً- هو الاتحاد الذي يبنى على أساس مصلحة الشعوب بالدرجة الأولى فيكون بين شركاء متساوين في الحقوق والواجبات والمكانة، مع الحفاظ على الاستقلال والسيادة وبناء أكبر سوق من مواد وأفكار وقيم وقوانين، وفتح الفضاء الخليجي أمام تحرك السكان والرساميل كأهم شرط للنهضة الاقتصادية الشاملة والتسامح والتنوير.