تمر السياسة الدولية حالياً بتحولات جذرية لها ما بعدها. ومن يطلع على الأدبيات السياسية التي أخذت تظهر في الغرب على ألسنة النخب السياسية، التي صعدت إلى قمة السلطة، في الآونة الأخيرة، يصيبه الرعب من هول ما يقولون ويفعلون. فهذه النخب تهدد بتقويض التفاهمات والأسس التي وضعتها دولها، المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وسار عليها العالم، منذ ذلك الحين. وهي الأسس التي حفظت تماسك ما سُمى بـ «المجتمع الدولي»، خلال السبعين عاماً الماضية، وحالت دون نشوب حروب شاملة، سبق وأن جلبت الويل والدمار للبشرية، نتجت عن سياسة الجشع وحب السيطرة.

التغني بالأمجاد

في أمريكا، يقول الرئيس المنتخب دونالد ترامب أنه سيسعى إلى أن «يعيد لأمريكا عظمتها». وفي بريطانيا، التي قررت للتو الخروج من الاتحاد الأوروبي، أعلنت حكومتها بكل صراحة عن نيتها العودة إلى ماضيها القوي، بعد أن عبر الإنجليز عن نزعتهم الانفصالية عن أوروبا. وعليه نجد أن لغة الخطاب السياسي لديهم قد تبدلت تماماً، لتتماشى مع التوجه الجديد. وغابت لغة «نحن في أوروبا» وحلت محلها لغة «نحن في بريطانيا». فقبل وقت مضى، تحدثت رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، أمام حشد كبير من رجال الأعمال الإنجليز والقطاع الخاص، في كلمة حددت فيها بوضوح ملامح السياسية المستقبلية الجديدة لبلادها. استهلت حديثها بالإشارة إلى حجم التغييرات التي شهدها العالم، خلال عام واحد فقط، أبرزها قرار خروج بريطانيا من الاتحاد، ثم انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة.

التحرر من قيود الاتحاد الأوروبي

قالت ماي إن «بلادها تهدف من وراء ترك الاتحاد الأوروبي إلى تعظيم دورها الاقتصادي في العالم»، موضحة أن «عضويتها في الاتحاد، منذ 43 عاماً، حالت دون جلب المكاسب للبلاد، فأصبح الخروج هو الحل الوحيد أمامها كي تحرر سياساتها الخارجية، فتكون قادرة على استخدام قوة وحجم اقتصادها لتنطلق مجدداً تجاه باقي العالم، وتتعامل مع «حلفاء قدامى وشركاء جدد»». والملفت أن ماي أشارت إلى أن بلادها «ستستعمل الحريات» الجديدة لـ «تفرض شروطها» في تعاملاتها التجارية من الآن فصاعداً، خدمة لـ «كل المملكة المتحدة»، في إشارة ذات مغزى إلى الأقاليم التي تتكون منها البلاد، وأهمها اسكتلندا التي تتفلت للانفصال عنها.

التلويح بالقوة الغليظة

تحدثت ماي بكل صراحة عما تهدف إليه بلادها بعد التحرر من قيود الاتحاد وقالت إن «أساس المسألة هي زعامة بريطانيا في العالم، بالقوة الغليظة وبالقوة الناعمة». وهذا يشير إلى شيء واحد فقط وهو أنها تتصور أن بلادها تريد أن تتزعم العالم ولا مانع لديها من اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية لتحقيق ذلك. وهي نفسها كانت قد قالت من قبل أمام البرلمان إنها لن تتردد في استخدام السلاح النووي إذا لزم الأمر.

وهذا هو الجانب المرعب في الأمر، ألا وهو التلويح بشن الحروب الشاملة، وهذه لغة لم يسمعها العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، سيما وأن بريطانيا نفسها كانت من بين القوى المنتصرة التي وضعت أسس التفاهمات الدولية، الأمر الذي حال دون نشوب حروب شاملة مدمرة. وقد جاء الزمن الذي تنسحب فيه من هذه التفاهمات، وتتخلى عن سياسات اتبعتها على 70 عاماً.

التنافس على زعامة العالم

اتسمت نبرة ماي بنبرة بالقوة قائلة إنها «واثقة في مواجهة التحديات» القادمة، وكررت أكثر من مرة أن «بريطانيا تستطيع أن تكون في مركز القيادة» للعالم. إن سعي بريطانيا لتصبح زعيمة العالم مرة أخرى، والدولة الأولى فيه، سيضعها حتماً في مواجهة مباشرة مع الدول الكبرى الأخرى، وأولها الولايات المتحدة التي تقول عن نفسها إنها هي الدولة الأولى في العالم، ونجد رئيسها الجديد يعلنها بصراحة أنه قادم ليعيد أمجاد بلاده و»عظمتها». وعليه ستجد بريطانيا نفسها وجهاً لوجه أمام قوى عالمية لا توافقها الرأي. وهذا سيعيد الأوضاع الدولية إلى المربع الأول، من تنافس على الثروات، ينجم عنه مواجهات وحروب، تجلب معها الويلات للبشر أينما كانوا.

لقد خلت كلمات القادة الجدد من تعبيرات اعتادت آذان الناس أن تسمعها حتى عهد قريب، مثل «التكامل»، «السلام العالمي»، «استقرار العالم وأمنه» وغيرها، وهي تعبيرات كانت تدل على إبقاء أوضاع العالم كما كانت. وكان إذا تجرأ أحد على طرح فكرة تمس، من قريب أو بعيد، تلك التفاهمات العالمية، كانت الدول الكبرى وأذرعها تسارع إلى رميه بكافة أنواع التهم، أقلها التطرف، وزعزعة الاستقرار العالمي وتهديد السلام. وها قد جاء وقت يفعلون هم فيه ما كانوا يحرمونه على غيرهم.

شكل المستقبل

ختمت رئيسة وزراء بريطانيا كلمتها باستنهاض همم رجال الأعمال الإنجليز الذين كانت تخاطبهم وقالت: «بصدارتنا وزعامتنا سنضمن الازدهار لمصالحكم التجارية، ونجاح بلدنا، ومستقبل العالم، الذي سنتركه لأبنائنا. لذلك، دعونا ننتهز هذه اللحظة، ودعونا نحقق هذا معاً». لا أدري ماذا سيحدث؟ وما هو شكل العالم الذي تتصور أن تورثه للأجيال القادمة، بعد أن تكون قد حلقت في سماءه الصواريخ النووية العابرة للقارات، وأسلحة الدمار الشامل؟ أي عالم تتخيل يمكن أن يبقى بعد ذلك؟

الخلاصة إذن، إننا نسمع كلاماً واضحاً فيه دعوات مفتوحة للحرب. تبدل الخطاب السياسي، مع مجيء حكام جدد. حتى إسرائيل ربيبتهم عبرت عن قلقها من وقوع حرب عالمية نووية ثالثة، وخرج فيها من يدعو لإيجاد ملاجئ للاحتماء من السلاح النووي. وقديماً قال الشاعر:

أرى خلل الرماد وميض نار

ويوشك أن يكون له ضرامُ

فإن النار بالعودين تذكى

وإن الحرب أولها كلامُ

وإن لم يطفئها عقلاء قوم

يكون وقودها جثث وهامُ

فهل بقي في العالم عقلاء يطفئون نار الحرب؟

* إعلامي ومحلل سياسي أردني