^ العواصم الأوروبية تشتهر بألقاب متعددة، فهناك عاصمة الضباب لندن، وعاصمة الكآبة براغ، وعاصمة الفن والثقافة والأدب باريس، وعاصمة السياسة بروكسل، وعاصمة الأنس والجمال فيينا النمساوية. نتوقف عند الأخيرة، فرغم زياراتي المتعددة للعواصم الأولى، إلا أن الأخيرة لها رونق وطابع خاص يختلف كثيراً عن العواصم الأوروبية المختلفة، ولكنها تحمل في ربوعها القاسية والجميلة لمسات خاصة من الغموض الذي يكون عصياً عن الفهم في أحايين كثيرة. عندما نرجع بالذاكرة للتاريخ سنتذكر وصول العرب والمسلمين إلى أسوار فيينا خلال الفتوحات الإسلامية التي تمت في عهد الدولة العثمانية. ولاحقاً سنجد أن الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في العام 1914 كانت بسبب اغتيال ولي عهد النمسا وزوجته على يد طالب صربي في سراييفو. وفي مقاهي فيينا أيضاً شهدت العديد من الاجتماعات الدولية الهامة بين قادة العالم وهي الاجتماعات التي أدت إلى ما آل إليه وضع العالم اليوم. وعندما نسمع نكت الشعب النمساوي سنجد أشهرها أن فيينا قدمت لألمانيا الزعيم النازي هتلر الذي ولد في فيينا، واستقبلت الموسيقي الأشهر في التاريخ موزارت. كما عاش فيها بيتهوفين وغيرهم من الفنانين والكتاب الذين أحدثوا نقلات عظيمة في تاريخ التطور الإنساني. سياسياً، قد يكون الدور النمساوي غير واضح على السياسة الدولية، ولكن الكثير من الترتيبات السياسية تتم في العاصمة فيينا، خاصة وأنها تستضيف مقار عدة منظمات دولية رئيسة، مثل: منظمة الأوبك، والوكالة الدولية للطاقة الذرية وغيرها. قد لا يتضمن هذا العرض أي غموض أو أمور مخفية، ولكنها بالفعل غامضة ومخفية لمن هو عارف بواطن الأمور، ويدرك جيداً ما يجري في فيينا كعاصمة من عواصم الاتحاد الأوروبي. والسؤال هنا: هل يعيد التاريخ نفسه من جديد مادام هذه الأحداث قد تمت في العاصمة النمساوية؟ وهل يمكن أن يؤدي هذا الغموض إلى تشكيل بلدان العالم من جديد كما تم ذلك في القرن الماضي على الأقل؟ أسئلة قد يراها البعض مجرد هواجس أو خواطر أو حتى شكل من أشكال الهلوسة الفكرية. ولكنني لا أعتقد ذلك تماماً، فالغموض مهيب للغاية، وهو غموض مقدس عندما يتعلق الأمر بالأديان والمذاهب والأعراق والطوائف، فكما هي البحرين تحتض لمجموعات إثنية متنوعة ومميزة تاريخياً، كذلك هي فيينا التي استفادت كثيراً من الهجرات العربية والغربية والآسيوية وحتى الأوروبية إلى أراضيها، وصارت تضم خليطاً فريداً زاد غموضها القديم غموضاً.