^ مغطى بعلمي مصر والجزائر؛ شيعت القاهرة يوم الجمعة الماضي جثمان المطربة العربية الهوى الجزائرية الأصل وردة الجزائرية، بعد الصلاة عليها في مسجد صلاح الدين بالمنيل. حشد من زملائها الفنانين جاؤوا كي يلقوا نظرتهم الأخيرة على جثمان زميلة رافقتهم لما يزيد على نصف قرن، قبل أن تقله طائرة عسكرية خاصة أتت من أجل إنهاء مراسيم الدفن الأخيرة في مقبرة “العالية” في الجزائر، التي غنت لها وردة قبل ما يزيد على النصف قرن أغنية “كلنا جميلة.. البطلة النبيلة”، ثم عادت كي تصدح بصوتها الرخيم أغنية خاصة بمناسبة الذكرى الخمسين لانتصار الثورة الجزائرية، التي دأبت وردة على المشاركة في أعيادها بأغنيتها المشهورة “عيد الكرامة والفدى”. مزجت وردة ببراعة فائقة بين ما تعلمته في فرنسا، مسقط رأسها، وبين ما رضعته من لبنان من خلال والدتها، كي تصل إلى المعادلة الصحيحة التي ساعدتها على الانتقال من مجرد مطربة عادية تعيد غناء ما يصدح به فنانون معروفون من أمثال أم كلثوم وعبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، إلى واحدة من سلاطين الطرب العربي في العقدين الثاني والثالث من القرن الماضي. ترتبط وردة في أذهان الأجيال الشابة بأغانيها الأخيرة التي لحنها لها زوجها بليغ حمدي وآخرين، مثل “باتونس بيك وانت معايا”، و«بودعك.. وبودع الدنيا معك جرحتني.. قتلتني وغفرت لك قسوتك”، وكذلك “شعوري ناحيتك.. شعور كبير كبير شعور بمحبتك.. مليان أحاسيس كتير” أما بالنسبة لنا نحن، فترتبط وردة بالثورة الجزائرية وأبطالها على وجه التحديد جميلة بوحيرد، التي غنت لها وردة أغنيتها المشهورة “سجن الأعادي بطلة بلادي.. وظنوا جميلة لا يوجد سواها.. إلخ”، والتي عرفت أيضاً باسم جان دارك الثورة الجزائرية، ووصفها نزار قباني بما هو أكبر من ذلك في قصيدته في ديوان “حبيبتي” التي يستهلها قائلاً: الاسم جميلة بوحيرد رقم الزنزانة تسعونا في السجن الحربي بوهران والعمر اثنان وعشرونا إلى أن يقول، مقارناً بينها وبين جاندارك يذكرها الليلكُ والنرجس يذكرُها.. زهرُ الكبَّاد.. ما أصغرَ (جان داركَ) فرنسا في جانب ( جان داركَ ) بلادي ولمن لا يعرف جميلة بوحيرد من القراء، فهي الشابة الجزائرية التي ألقت عليها القبض سلطات الاستعمار الفرنسي في يوليو 1957 فيما كانت متوجهة لتسليم رسائل إلى أحد قادة الثورة الجزائرية ياسيف سعدي، وحكم عليها بالإعدام، لكن السلطات الفرنسية لم تستطع تنفيذ ذلك وتحول صمودها أمام آلات تعذيب الزبانية الفرنسيين إلى أسطورة نضالية ملهمة في الخمسينيات من القرن الماضي. لا بد وأن يكون القارئ قد لمس الآن أن للفقيدة وردة شخصيتين وكلتاهما تستحقان الاهتمام، فمن جانب تألقت وردة كصوت مرهف شجي لحن لها أباطرة الفن من أمثال محمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وسيد مكاوي، قبل أن تحط الرحال عند زوجها الملحن بليغ حمدي، ومن جانب آخر هي أيضا فنانة ملتزمة بقضية بلادها الجزائر ووطنها الكبير الوطن العربي، فشاركتهما أفراحهما وعاشت قضاياهما عندما كانت من بين من غنوا أوبريت “وطني حبيبي .. وطني الأكبر”، أو حين وكما ذكرنا شدت بأغنيتها الشهيرة “جميلة”. لا شك أن وردة قبل أن تغادرنا وبينما كانت تصارع المرض العضال الذي أصاب كبدها كانت تستعرض أيضاً، سوية مع سيرتها الفنية، مسيرة العرب السياسية. ترى هل كانت وردة تتوقع أن تؤول إليه أوضاع الأمة العربية إلى المستوى الذي نعيشه نحن اليوم. كانت وردة تنتشي وهي تصدح بقسمها في “وطني حبيبي.. وطني الأكبر”، آملة في وطن عربي موحد، تحررت مختلف دوله من قبضة الاستعمار الغربي ونجحت في لجم إن لم يكن القضاء على الكيان الصهيوني. لم يدر بخلد وردة أن يصل تردي الأوضاع العربية إلى درجة تصل إلى أن يلجأ محمد البوعزيزي إلى إشعال النار في جسده النحيل كي يثبت أن السيل قد بلغ الزبى، ولم يعد في الإمكان السكوت على ما هو قائم. ولا أن تتحول مصر التي احتضنت وردة وساهمت في أن تتبوأ المكانة الفنية التي وصلت إليها إلى ساحة حروب محلية تقترب في جوهرها من حروب العرب في الجاهلية. وأكثر من ذلك أن تتحول سوريا إلى ساحة صراع تجرّب فيه قوى محلية بالتنسيق مع حلفائها الدوليين مشروعاتها الشرق أوسطية. هل ساور وردة وهي تصدح مؤيدة للثورة الجزائرية احتمال انتشار الفساد وتردي الأوضاع في بلدها الأصلي الجزائر إلى درجة خروج الناس مرحبة بالرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، رافعين شعار “فيف لا فرانس” أي “عاشت فرنسا”، ليس حباً فيه ولا في بلده فرنسا إنما تعبيراً عن ازدراء الأوضاع التي كان وما يزال يعيشها المواطن الجزائري منذ أن طرد الفرنسيون من الجزائر، ومنذ أن بدأ الانتهازيون في تسلق المناصب كي يصلوا إلى سدة الحكم، وأكملوا ذلك بمحاربة ومن ثم عزل كل من عارضهم واستولى العسكر على السلطة، وانتشر الفساد، ولم تنفع الجزائر ثرواتها النفطية، ولا أموالها التي راكمتها الزمر الحاكمة من بيع غاز الجزائر كي تحرم المواطن منها، وتستحوذ هي دون أي حق على نسبة عالية منها، فتتحول الجزائر من دولة نفطية غنية إلى دولة أخرى تراكمت عليها الديون وتنهش أموالها عصابات نشأت وترعرعت في بؤرة الفساد التي نتحدث عنها، بدلاً من أن تكون إشعاع ثورة مستمرة تبدأ بعد طرد المستعمر في التأسيس لدولة معاصرة تمتلك كل مقومات التقدم والتطور. هل كانت وردة وهي تتغنى بأمجاد العرب، وانتصارات الثورة الجزائرية، تتوقع أن تعيش كي ترى لبنان، الذي طالما حلمت بالعيش في جباله، والغناء في صالاته الفنية، وقد أصبح هيكلاً مهدماً تنتعش فيه مليشيات مسلحة، وعصابات متعسكرة، تفرض سطوتها، ومعه سلوكايتها غير الحضارية، على المواطن اللبناني، فقسمت لبنان بدلاً من تعزيز وحدته، وجرته قروناً إلى الخلف، بدلاً من تشجيع خطوات تقدمه نحو الأمام. وللفنانة وردة قصة غير موثقة تتداولها الألسن، وتتحدث عن مشكلة نشأت بينها وبين جهاز المخابرات المصري، بعد لقاء تم بينها وبين المشير عبدالحكيم عامر في مطلع الستينيات خلال فترة الوحدة المصرية - السورية، انتهت بصدور قرار يقضي بإبعادها خارج البلاد ومنعها من دخول مصر، ولم تستطع وردة العودة مرة أخرى إلى مصر إلا في مطلع السبعينيات عندما استلم الرئيس السادات مقاليد السلطة. رحم الله وردة الجزائرية وأسكنها فسيح جنانه، فقد أشجتنا لما يزيد على نصف قرن، وأعان الله العرب كي يخرجهم من أوحال أوصلوا انفسهم إلى مستنقعاتها وأصروا -مهما ادعوا أو أوهموا أنفسهم خلاف ذلك- أن يمكثوا فيها.