^ في رده على الملاحظات التي أوردتها في مقال سابق حول انتهازية بعض اليسار وتقلباته في مواجهة الأزمة الأخيرة، والتي ترجمها بانحيازه للخيارات الطائفية المغلفة بخطاب ديني طائفي يتنكر وراء خطاب ديمقراطي وطني مفارق للممارسة السياسية العقلانية، وللخلفية الأيديولوجية لليسار في أي نسخة من نسخه المعروفة، كتب لي أحد القراء التعقيب التالي، متمنياً نشره لتصحيح الصورة التي يعتبر أنني أسهمت في تشويهها من خلال ما كتبت عما أسميته باليسار الانتهازي. يقول القارئ: “إن اليسار لم يفقد هويته كما ادعيت، وإنما قراءتك المنحازة وغير الموضوعية هي التي أخرجته من هذه الهوية، وهي الهوية الوطنية الديمقراطية التقدمية، وإنه لايزال يحتفظ برؤاه ووفياً لمنابته الفكرية الأيديولوجية، وإنما جاء التقاؤه مع الحراك المعارض الآخر -والذي أسميته بالحراك الديني الطائفي- نتيجة لقراءة موضوعية متأنية لتحولات الواقع المرير واقتناع بأن السلطة غير جادة في الإصلاح، فكان لزاماً أن نبني جبهة ضاغطة مع أوسع القوى الوطنية للضغط على السلطة ودفعها إلى تحقيق المطالب في الإصلاح والديمقراطية”. هذا ملخص التعقيب ومعه كلام طويل لا يزيد عما أوردته، يتضمن دفاعاً عن الحلف “غير المقدس بين اليسار واليمين الديني الطائفي” وتبريراً لذلك الحلف بمواقف السلطة التي لم “تترك لليسار إلا هذا الخيار” على حد قوله. والحقيقة إن هذا الكلام يُخفي مساحة واسعة من المغالطة، بل ويزيد من خيبتنا في هكذا فكر، بل واستحالة المراهنة عليه في الحاضر أو في المستقبل، فالتعقيب هنا يُحيل إلى ديماغوجية حقيقية، يحاول بعض هذا اليسار الانتهازي أن يبرر بها أخطاءه وخطاياه السياسية، وأُولى هذه الخطايا هو أنه لم يعد يمتلك حتى القدرة على مراجعة أخطائه -مثلما فعل الإخوة في المنبر الديمقراطي على الأقل بالعودة إلى وضعهم الطبيعي كيسار ديمقراطي تقدمي- يمكن أن يخطئ، ولكنه يراجع الأخطاء ويصحح المسار، يمكن أن ينخدع لحظة بالخطاب والحراك الطائفيين، ولكنه لا يمكن أن ينخدع طويلاً، إلا إذا كان الأمر في الأصل مبنياً على نوع من الحسابات الانتهازية على الأرجح، وإلا فما الذي يمكن أن يجمع بين أقصى اليسار وأقصى اليمين الديني الطائفي؟! بما يحمله ذلك من تهميش للعقل ولمساحة العقل والانقلاب على العقل باتجاه تكريس طقوس عبادة الفرد وتقديس الطائفة وتأليه القائلين؟! وإذا كان الزمن مختلفاً جذرياً والرؤية تختلف والوقائع تختلف جذرياً والمتطلبات غير المتطلبات فإننا أمام خيارين: - أن نقرأ تراث اليسار وكفاءته وقدرته وأيديولوجياته وخياراته ورؤاه وقيمه وتاريخه وتراثه، بمعنى حياته ومصيره ومشاكله ومجتمعه بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، وهويته الأصلية الصميمة التي تجعله في الانتخابات الحرة يفضل على الحصول على صفر أو صفر فاصل، بدلاً من أن يستظل بمظلة الطائفية، ومن ثمة مواجهة كل هذا بكل الممكنات النظرية والمعرفية والرمزية ليستدل على ما يناسب ويتلاءم مع التحول والتغيير والحركة ومن ثم صياغة نصوصه ومواقفه المتناسقة مواقفه المرتبطة بقيمه وبرؤاه. - أو أن نقرأ انحيازات قيادات ضائعة سياسياً، غير متجذرة في فكر اليسار ولا في قيمه ولا ترتبط صميمياً بتراثه وبرؤاه المتجددة في التاريخ وليس خارجه، وبذلك نصبح أمام حالة من الميتافيزيقية اليسارية الجديدة العجيبة غير المسبوقة، ولذلك يحق لنا أن نتساءل؛ أين هذا اليسار مما فعل ماركس في زمنه أو مما فعل إنجلز بإصراره على إعادة قراءة الوقائع من جديد وحيثما عدل وغير ونسف واعترف بالتقصير، وسجل نصوصه وأكمل بعقله هو ما تركه سابقوه، بل وأين هذا اليسار مما فعل لينين في رؤاه الخاصة عن واقع المجتمع الروسي وأسراره وتكويناته وتقسيماته آنذاك، وإضافاته الكبيرة التي سجل من خلالها خطوة متقدمة في الفكر والممارسة أو مما فعل ماو تسي تونغ في قراءته للمجتمع الصيني أو ما فعله غرامشي في مقاربته للمجتمع الإيطالي أو ما قدمه ماركيوز وفرانز فانون وريجيس دوبريه عن تغيير العالم وتحولاته، أين هؤلاء السائرون في ركاب التقديس والاتباعية والتحالف مع الطائفية من هذا التراث الغني الثري؟ بل أين هو من القدرة على إنتاج النص البديل والرؤية المتقدمة بدلاً من الهروب إلى الوراء؟!