^ نوع التحالف الذي يجمع بين عناصر المعارضة يجعل منها حالة عرضية في التاريخ، لأنه ليس تحالفاً مبنياً على مبادئ وقيم مرجعية واحدة أو حتى متقاربة، وليس مبنياً على رؤية مشتركة تجمع بين أطرافها، إنما يبدو هذا التجمع وكأنه مبني على جمع اللاءات وعلى كره النظام بالدرجة الأولى، وهذا في الحقيقة لا يصنع سياسة، ولا يصنع معارضة بالمعنى السياسي، وإنما هو أقرب إلى جبهة معادية منها إلى معارضة تقوم على فهم مشرك لطبيعة المرحلة وطبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وحتى وثيقة المنامة لا تبدو في الحقيقة وثيقة مرجعية، من الناحية السياسية والأيديولوجية، بقدر ما تبدو كآلية لتنفيذ مطالب انتقالية تمهد لاستلام السلطة بعد “إسقاط النظام”، ولا تشكل رؤية لحل الأزمة وتجاوز المأزق الذي وضعت فيه هذه “الجبهة” نفسها والسلطة والمجتمع، لفقدانها الرؤية والخبرة والحكمة معاً، فأفضل المطالب وأكثرها نبلاً تكون عديمة الأهمية إذا ما طرحت في غير وقتها أو خارج سياقها التاريخي أو خارج نطاق القدرة على تنفيذها أو الاستجابة إليها. الصورة الحالية لهذا التجمع المعارض خلطة من تناقضات متباعدة، لا يمكن أن يجمعها حالياً إلا ما يجمعها من حراك وإدارة الفوضى والاحتجاج المستمر، وهو سينفض أو يعود إلى الانقسام على الأرجح بمجرد الاهتداء إلى طريق الحل السياسي، فهذا التجمع تتراوح أهواؤه وشعاراته بين الدعوة إلى إسقاط النظام بالقوة وإرهاب المولوتوف والتخريب، وبين القول بـ “ديمقراطية حقيقية” في مواجهة “ديمقراطية قاصرة”، والديمقراطية الحقيقية عندهم هي أن يحكموا بأنفسهم وبمفردهم لأنهم في تقدير أنفسهم “الأغلبية” المختصرة في فرد جامع وهي البحث عن حل عن طريق الفرض وليس عن طريق الوفاق والتوافق والاتفاق. هنالك اليوم حاجة ماسة لإعادة الاعتبار لنبل العمل السياسي وقيمه العالية لفكر يتفانى في خدمة المجتمع ويتعالى عن الجراح وعن المصالح العرضية في إطار النواميس والضوابط الأخلاقية، وهنالك حاجة للبحث عما هو ممكن، عما يمكن أن يجمع الناس دون المساس بالمبادئ والقيم المشتركة الموحدة للمجتمع على اختلاف مذاهبه وتوجهاته، والتوقف عن منطق الإلغاء، وعن شعار “نحن أو أنتم”!!. البلاد تعيش اليوم في أزمة حقيقية، وهي في حاجة ماسة إلى بناء التوافقات بديلاً عن المواجهات، في حاجة إلى مواجهة المشاكل الاجتماعية الاقتصادية ووضع الحلول العقلانية وهذا لن يتسنى إلا بالتوافق السياسي ضمن الحرص على المحافظة على الوحدة الوطنية... لم يعد خفياً أن معيار نجاح الديمقراطية هو التوافق السياسي، وأن قدرة القوى السياسية على صيانة مكتسبات الإصلاح السياسي الذي تحقق في المرحلة السابقة وتعزيزها إنما يكون عبر استمرار توافقها، وأن انهيار التوافقات يعني انهياراً للشراكة السياسية وبالتالي للديمقراطية الفتية في بلد أقام تاريخه وحراكه السياسي دائماً على التوافق رغم الخلافات. فعمليات التحول الديمقراطي الناجحة تحدث عن طريق المواثيق التي تتفق عليها النخب السياسية، خاصة المصلحون في النظام السياسي العقلاني والمعتدلون بين قوى المعارضة، وقوى المجتمع المدني أي من خلال الحوار وليس من خلال الفوضى واستمرار الاحتجاج إلى ما لا نهاية، فالديمقراطية لا يمكن أن تفرض بالقوة، والدول التي حدث فيها شيء من هذا القبيل بينت التجارب أنها عادت إلى الوراء ولم تتقدم، ويكفي النظر إلى النموذج العراقي الفاشل حتى نتأكد بأن الطائفية لا تبني الديمقراطية، وأن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تعني في النهاية نقل السيطرة من طائفة إلى أخرى ولا تعني المحاصصة الطائفية وقسمة المغانم بالتساوي، وإنما تعني بناء دولة المواطنة، كما إن الحل الوحيد الممكن لا يمكن أن يكون إلا عبر الحوار والتسويات وحماية الحقوق من خلال الدور الحاسم للنخب والقيادات السياسية بتعزيز المبادرة للتحول الديمقراطي السلمي، حتى وإن كانت نتائج هذه العملية بطيئة فإنها ستكون مقدمة للتقدم نحو الخروج من النفق الذي أوقعنا فيه الانقلابيون الجدد. إذا أردنا بروز شكل للديمقراطية مستقر وراسخ، فإنه يجب أن يكون قائماً على نمط التعاون بين النخب الحاكمة والمعارضة وكافة قوى المجتمع المدني الأخرى، وما يتضمنه هذا التعاون من مواثيق واتفاق عام واعتدال وتغيير تدريجي، ونمط عقلاني من المعارضة الوطنية الديمقراطية، ولكن بناء ديمقراطية مستقرة وراسخة توافقية لا يكون على أساس أغلبية أو أقلية وإنما على أساس التوازن بين قوى المجتمع الأساسية وأقلياته.. وبعبارة أخرى، تتزايد احتمالات التعزيز الديمقراطي عندما توجد ظروف وأوضاع أساسية داعمة للتعاون لا للمواجهة مثلما هو حاصل من العبثية السياسية الحالية، كما إن الاتفاق العام والتغيير التدريجي المعتدل لا يمكن أن يتوافر إلا بوجود عدد كافٍ من الفاعلين السياسيين الجديين من ذوي المصداقية والصدقية السياسية والنزاهة الأخلاقية، من الذين يعطون أولوية عالية للقيم والأهداف والترتيبات الديمقراطية، وليس إلى الخزعبلات السياسية والمصالح الآنية والاستعراضات الفولكلورية عبر الشاشات وفوق المنصات لتهييج الجمهور الذي يحتاج إلى توجيه عقلاني وليس إلى الدفع والتدافع، وفي حالة غياب هذه الأوضاع والظروف والقيادات من المستوى العالي القيمة والجدية والالتزام تتضاءل احتمالات الترسيخ الديمقراطي وتتضاءل فرص الخروج من الأزمة، لأن اللاعبين حالياً في ساحة المعارضة يفضلون الطريق السهل وهو الاستمرار في التصعيد والصراخ وتكرار نفس الكلمات إلى ما لانهاية حتى وإن دفع المجتمع جراء ذلك أثماناً باهظة ولا محدودة من الكوارث والصراعات والانقسامات.