بقلم - أ. د. صبري خاطر: صدرت مؤخراً الأعمال الشعرية للأستاذ الدكتور علوي الهاشمي. وكنت عرفته ناقداً مبتكراً لا يلجأ في نقده إلى أنماط تقليدية وإنما تجد في نقده لوحة فنية تشتمل على أسلوب أدبي رشيق يجمع بين لغة الأكاديمي المتمكن من أدواته وبين رومانسية الأديب الذي يسمو بخياله فوق المادة لا ليكون حبيس صومعة في صحراء فكر جرداء، وإنما يجعل من المثل العليا معياراً به نقيس الواقع فنواجه مشاكله ثم نحاول حلها على وفق هذا المعيار ولكن من دون أن نهرب منها إلى عالم صامت نكتفي فيه بالوحدة ونختبئ فيه ثم نشكو من الدنيا وربما الدنيا هي التي تشكو دون أن ندري. نار شعر لم تنطفئ كنت أعرف أن الهاشمي شاعر ولكن كلما حاولت أن اقترب من شعره خالطني شيء من الخوف أن أكتشف شاعراً تحول من الشعر إلى النقد، وأن هذه العبقرية الناقدة هي ما تبقى من نار الشعر التي انطفأت. ولكن بعد أن صدرت أعماله الشعرية وأطلت في كتاب متميز في إخراجه، وجدت من العبث أن أدفن حبي لقراءة شعره في خوف عبثي وأن من واجبي أن أبحث عن الرجل في كل ما يكتب، ثم ما المانع أن أقول له أنك كتبت الشعر لكي تكون ناقداً يعزف لحلم لم يتحقق. ومع أني وضعت الأعمال الشعرية في مكتبتي أوجست خيفة كلما حاولت أن أقترب منها لأني أطمح أن أتعقب خطى واثقة وليس بقايا شاعر وأن أرى في يده يراعاً يرسم بالكلمات لوحات تتميز بالأصالة. وكان لا بد في نهاية المطاف أن أمسك بالأعمال، وهكذا فعلت ولكن لم أقرأ المقدمة التي وضعها الهاشمي تحت عنوان كبير هو (حين يكون الشعر وطناً)؛ بل ولم أقرأ ما كتب من تحليل لشعره مع المقدمة تحت عنوان (حوارات الممكن والمستحيل)؛ بل ذهبت مباشرة إلى قصائده وبدأت بالقراءة ولا أدري ما اللحظة التي بدأت بها، ولكن أدرك أني لم أنته للآن منها ويبدو أنني لن أنتهي وذلك لأن شعره مثل المرايا واحدة أمامك وأخرى خلفك، فالصورة تعكس الصورة والصورة تعكس الأخرى. فإن توقفت عند صورة شعرية فريدة عكست لك صورة أخرى ثم الأخرى تعكس الأخرى وهكذا حتى تجد نفسك تقرأ من دون توقف، فإن توقفت فلكي تعود مرة أخرى. كلمات تثير عبارات وعبارات تثير معاني. وما يثار يؤدي إلى كلمات وعبارات جديدة في حوارات مستمرة تعبر عن إبداع قل نظيره. شاعر وناقد كبير عند قراءة كل قصيدة كنت ألوم نفسي على حكمها المسبق بالمقارنة بين الناقد والشاعر. وأن هذا الحكم إذا كان يطبق على أعمال الآخرين فإن الهاشمي أبعد ما يكون عن هذا الحكم. فهو شاعر كبير وهو ناقد كبير وبعبارة أخرى هو ناقد لم يأت بعد شاعر وليس شاعرا أتى بعد ناقد، وإنما هو شاعر وناقد في طريق من الإبداع يمتد من الأفق إلى الأفق من دون أن يصاب أي منهما بمصيبة الغروب. وما أكتبه لا يبنى على معيار شخصي يكمن في إعجابي بلون الشعر الذي يلون به شعره، وإنما هو معيار موضوعي لا يملك أي ناقد إذا قاس عليه إلا أن يعطي الهاشمي قصب السبق في جمعه بين ميزتي الشاعر والناقد على حد سواء. موهبة شعرية كبيرة لا أعتقد أن أحداً سيجادل في مكانة الهاشمي في النقد فهو متمكن من أدواته التي تعززها موهبة فذة ودراسة أكاديمية وصل ذروتها بنيله مرتبة الأستاذية، ولكن قد يتساءل إذا كان الأمر كذلك بالنسبة له ناقداً فكيف استطاع أن يكون شاعراً كبيراً قد يتفوق على نقده؟ والإجابة على هذا السؤال بسيطة فهي الموهبة التي حباه الله بها. فهو لم يدرس لكي يكون شاعراً وإنما بدأ شاعراً بالفطرة ثم صقلت موهبته حتى كان فارساً للشعر في مملكة البحرين ثم انطلق هذا الفارس في ميدان الشعر في ساحة الوطن العربي فكان من الفرسان المعدودين. وإذا كان لا بد من شاهد إثبات إذن لأقتطف من حديقة شعره الغنّاء بعضاً من الورد الذي لا تملك إلا أن تحار في وصف جمال اللون الذي يكتسي به. يقول في قصيدة إلى مسافرة (اغتراب السفن في البحر، تنهيدة الريح عبر صحارى التمني .. ها أنت كالوهم تسترقين ظنوني..ها أنت كالدمع تعتصرين جفوني). إذا قرأت هذه المقاطع تبدو لك بسيطة لأول وهلة، فالاغتراب حكاية تقليدية، والسفن في البحر حقيقة دائمة والوهم يؤدي إلى الظن والدمع يخرج من العين. ولكن هذه الصورة تعكس معنى آخر. فالسفن لا تغترب في البحر وإنما البحر موطنها، فإن اغتربت في البحر فهو أمر جلل. وإذا أردت أن تعرف معنى الاغتراب فعليك بالمقطع الثاني بأن تتأمل الصحراء لأن هذا الاغتراب إذا اقترن بالصحراء كان دون نتيجة لأن الصحراء تعني لا ماء ولا شجر ولن تحصد سوى الرمال. ثم إذا أردت أن تعرف معنى الصحراء فتأمل كلمة التمني، ثم تعلو الفكرة حتى قمة الإبداع باستخدام كلمة التنهيدة. ولم يستخدم هذه الكلمة عبثاً فهذه الكلمة مستقرة في النفس من خلال الموروث الغنائي، فإذا تنهدت الريح يعني أنها لن تجد ما تخربه، ومن ثم فإن الصورة تتقدم نحو معنى آخر، أن الريح تأتي فلن تجد شيئاً. وبهذا المعني يحذر الحبيبة التي تجعل من ظنونه عبيداً لأفعالها..وتبكيه لأنه شاعر يحب أن يكون طليقاً. ولن يرضى بالقيد حتى لو كان في سجن جميل هو سجن الحب. هل تتأمل معي أن الصورة التي يوهمك ببساطتها تحمل معاني غير متناهية، وكما قلت سابقاً إن كل معنى يعكس معنى. ولو كان لي متسع أكتب فيه لسقت الصور الأخرى التي تعكسها هذه المقاطع فهي كلما قرأتها بهدوء تجد أنها لا تنتهي بل تبعث الريح تدب في جسدك فكأنك تركض في الصحراء وتسمع الريح تتنهد ثم تجلس فوق الرمال لتذرف دمعة على الفراق. اللغة ترمز إلى العودة يمكن أن أختار مقطعاً آخر وهنا أفتح المجموعة على أية ورقة فيها دون تعيين فأجد مقاطع من قصيدة (عيون بهية)، يقول فيها (وحدك الآن تقبع بين جذور المياه.. ونافذة الغيم.. تنزع عنك قميص الخطايا.. وتلبس جلد المرايا.. تزاوج بين احتضار الدمى .. وانفجار الدماء..). فهذا المقطع يثير ابتداء فكرة التطهير بالماء. وإن ثمة موتاً سلبياً وموتاً إيجابياً الأول يخلّف النسيان والثاني يصنع الانتصار. لكن هذا المعنى يعكس معنى آخر. فمن يتطهر لا يتطهر كأي شخص آخر وإنما هو يقبع عند الجذور كي يولد، ولكن الولادة هي انعكاس لما كان قائماً لأن من يولد يلبس جلد المرايا. وهذا رمز لحالة رفض أن يموت المرء على فراشه حتف أنفه، إذ لا بد إذا مات أن يموت كي ينتصر.. وهو يستخدم لغة الأنا، لكي يجسد في مشاعرك صوره ويضعك أمام الاختيار. ومن هذا الاختيار يتولد معنى آخر. فالدمى لا تحتضر لأنها ميتة ولكنه يوحي لك أن الحركة تبدأ من الموت ثم تتحول إلى جسد حي تسيل منه الدماء ولا يحدث ذلك على وفق السياق العادي للأشياء وإنما يحدث بالتدفق الرومانسي حتى لو تم التعبير عنه بكلمة الانفجار.. ولكنه ليس انفجاراً عادياً وإنما هو ما يحدث داخل الإنسان ذاته فيمحو خطاياه في حركة سريعة ليولد مرة أخرى ومن هذه الولادة يأخذك البحث عن الذات إلى العمق الذي ربما تبحث فيه عن كنز مفقود. واستخدام اللغة بهذه الطريقة يرمز للعودة إلى البداية عودة معبأة بطاقة خفية تدفعك نحو البناء من جديد فالإنسان لا يبدأ ليحتضر كالدمى وإنما لكي يكون حياً.. وهذا المعنى يقودك إلى معنى آخر ثم آخر. إبداع يصل الذروة هكذا يصل الإبداع إلى الذروة حتى تجد كلمات تتكرر دون أن تتكرر ثم تصنع صوراً تفسرها بمجرد تأمل السياق الذي وردت فيه كاستخدام أنواع اللون الأحمر والأسود والأخضر ثم الأحمر والأحمر والأزرق.. والمعاني لا تتوقف، فالهاشمي يريد أن يضعنا في حركة دائمة وأن نبقى نتخيل أو نفكر أو ننتظر المطر أو أن نتطهر بالماء كي نولد من رحم الوطن. وهكذا يحملك الهاشمي إلى عالم فيه تحب الوطن وتشتاق للوطن. إلى عالم تتجرد فيه من هموم اليأس لكي ترفع راية الأمل، إلى عالم شاعر عرف كيف يختار الكلمات مثل اختيار اللبنات التي يرتقي سلالمها إلى قمة المعنى. وهذه القمة هي منزلة يتربع فيها الهاشمي شاعراً كبيراً مبدعاً في عصره وسيظل مثل من ظلوا مناراً للشعراء القادمين.