من جديد تطفو قضية الوحدة النقدية الخليجية على السطح، حيث نقل موقع CNN بالعربية، تصريحاً خصه به الخبير الاقتصادي غسان معمر، جاء فيه أن “أبرز الآثار السلبية التي ستلقي بظلالها على الوحدة النقدية ستظهر من خلال أرقام الصادرات في تلك الدول، باعتبار أن حجم الصادرات مرتبط بقوة العملة، وفي حال توحدت العملة فإن ذلك سيؤدي إلى إمكانية الحصول على ذات السلعة من مناطق أقرب جغرافياً لتوفير أجور الشحن، الأمر الذي سينعكس سلباً على معدلات النمو في بعض الدول”. ترافق ذلك مع تصريحات عدد من المحللين، كما ينشر الموقع ذاته تصريحات تقول بعدم “وجود ترابط بين آليات عمل الوحدة النقدية الأوروبية والخليجية حيث إن هناك اختلافات كبيرة على صعيد مصادر الاقتصاد ومعدلات النمو والقطاعات الأكثر فاعلية في دعم الاقتصاد، ولا توجد مخاطر من إمكانية حدوث أزمات اقتصادية شبيهة بالتي عصفت بأوروبا خلال السنوات الماضية”. لم تكف الدعوات المنادية بضرورة الإسراع في إجراءات إصدار الوحدة النقدية الخليجية الموحدة، عن مناشدة القيادات الخليجية على اتخاذ خطوات عملية جادة على هذا الطريق، وعلا صوتها أكثر إثر الانتهاء من قمة قادة دول مجلس التعاون الخليجي، التي أعلنوا فيها في مطلع العام 2008 عن “إطلاق السوق المشتركة لتبدأ عملياً وحدة اقتصادية خليجية تجمع أعضاءها بروابط مشتركة قد تدفع مستقبلاً إلى توحد في القرار السياسي طبقاً لنظرية المصالح الاقتصادية المشتركة”، دون أن ننسى أن السوق الخليجية قد تم الإعلان عنها في العام 2003، وكان مقرراً لها أن ترى النور في العام 2007. مما لا شك فيه أن إعادة طرح هذه المسألة بين الفينة والأخرى، يدل على مسألتين رئيستين: 1. توافر مقومات نجاحها، وهي التي تدعو الخبراء، بل وحتى قادة دول مجلس التعاون على الحديث عنها، والترويج لأهميتها على الصعيد الوطني الخاص والإقليمي العام. فحتى الآن، على سبيل المثال، قلما نسمع من يدعو، جاداً، إلى وحدة نقدية عربية التي هناك شبه إجماع، على أن التفكير فيها، مايزال مبكراً، ويحمل الكثير من الطوباوية، وهو أمر لا نسمعه، إلا خافتاً، عند الحديث عن الوحدة النقدية الخليجية، التي باتت تستمد مقومات قوتها من واقع المنطقة السياسي، وبنيتها الاقتصادية. 2. وقوف عقبات موضوعية في وجهها، ففي الإلحاح عليها، وتصدرها قرارات القمم الخليجية، يعني أن هناك صعوبات تحول دون تحقيقها، تتطلب المعالجة، ومن ثم الإزالة من طريق العملة الخليجية الموحدة. وليس المقصود بالصعوبات، خلافاً حدودياً بين دولتين أو أكثر هنا، أو أزمة سياسية عابرة، فرضتها تعقيدات المنطقة العربية هناك، بقدر ما نتحدث عن الاتفاقيات الدولية التي تحكم استراتيجيات بعض عواصمه على المستوى الدولي، أو الخطط التنموية الوطنية الآنية المرتكزة على عملة وطنية، بدلاً من الإقليمية. مقابل ذلك هناك مجموعة من العوامل التي تدفع نحو هذه الوحدة، وتصر على توافر البيئة الاقتصادية، ومن ثم السياسية، التي تبرر قيامها، ومن ثم ضرورة البدء بخطوات جادة على طريق تحقيقها، والتي يمكن إيجاز أهمها في النقاط التالية: 1. النمط الذي يسير الاقتصادات الخليجية، التي يمكن تصنيفها، وبتفاوتات طفيفة يصعب ذكرها، ومن ثم أخذها في الحسبان عند النظر إلى الصورة من زواياها الواسعة، على أنها اقتصادات ريعية خارجية ترتكز على النفط كسلعة أساسية ومورد رئيس من موارد الدخل الوطني. النقطة الجوهرية التي ينبغي فهمها هي أن المقصد ليس الإشادة بهذا النمط الاقتصادي، بقدر أردنا القول إن هناك “هارمونية” معينة تساعد على تحقيق وحدة النقد الخليجية، التي لن يقف ضدها التباين الناجم من تعدد أشكال الاقتصاد في دول مجلس التعاون المختلفة. 2. توحد المنتج الخليجي، حيث مايزال النفط، شئنا أم أبينا، يشكل المصدر الأساس للدخل، والعنصر الأكثر سيادة في الإنتاج. وبالتالي، فأية متطلبات مالية تقتضيها إجراءات توحيد العملة الخليجية، بما فيها تلك الباحثة عن غطاء مالي لها، ستجد نفسها تدور في الفلك النفطي، ومن ثم فهي لن تجد الصعوبات التي واجهتها تكتلات اقتصادية أخرى، بما فيها تلك الناضجة مثل الاتحاد الأوروبي، عندما أقدم على الأخذ بـ “اليورو” كعملة موحدة. 3. التناغم السياسي بين الأنظمة الخليجية القائمة في دول مجلس التعاون، ممالك كانت أم مشيخات، فجميعها، في نهاية الأمر تندرج، بعيداً عن الاختلافات الطفيفة غير النوعية، تأخذ بنظام الحكم العائلي الوراثي، الذي يستند إلى دستور يكرس الملك في أيدي العائلة الحاكمة. ومرة أخرى الهدف من هذا التشخيص إبراز عناصر التناغم، دون الخوض في تقويم هذه الأنماط السياسية. ومن الطبيعي أن يسهل التناغم السياسي السير على طريق التنسيق الاقتصادية، ومن ثم ييسر الوصول إلى نهاياتها، دون أن يقلل ذلك من وعورة الطريق، أو الصعاب التي تكتنفها. 4. الرغبة الشعبية التي تتجاوز، في بعض مراحلها الطموحات الرسمية، حيث يتطلع المواطن الخليجي، كما تعبر عن تصريحات مثل تلك التي يكررها رئيس مجلس إدارة غرفة الشرقية السعودية عبدالرحمن بن راشد الراشد، حين يقول “إننا كقطاع خاص، ورجال أعمال، وقبل ذلك كمواطنين خليجيين نطمح في المزيد من الخطوات الوحدوية، على الصعيد الاقتصادي بالتحديد، إذ تجاوزنا الكثير من العقبات، ... وأن التكامل الاقتصادي بين الأقطار الخليجية هو خيارنا الأمثل لمواجهة كل التحديات التي تفرضها علينا التغيرات والتقلبات الاقتصادية العالمية”. كل ذلك لا يعني إطلاقاً أن الطريق باتت ممهدة، ولا تحتاج إلى أكثر من قرار سياسي على مستوى القمة، أو لجنة معينة من أجل التنفيذ. فهناك العديد من العقبات الموضوعية والذاتية التي تقف في وجه هذا المشروع الاستراتيجي، وتحول دون الوصول إليه، والتي يمكن تلخيص أهمها على النحو التالي: 1. على الصعيد الموضوعي الخارجي، هناك التدخلات الأجنبية، التي تقف وراءها الدول العظمى، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية. فأي مشروع للتوحيد، ومن جراء طبيعة العوامل التي ماتزال حتى اليوم تتحكم في العملات الخليجية، حتى قبل توحدها، سيجد نفسه أمام علامة استفهام كبيرة مطالب بالإجابة عنها، قبل الإقدام على أية خطوة عملية إيجابية نحوها، وهي ما هو مصير علاقة العملة النقدية الخليجية المزمع سكها من العملات العالمية، وعلى وجه التحديد الدولار واليورو؟ فحتى لو لجأت الدولة الخليجية، سعياً منها الابتعاد عن ذلك التساؤل، ولجأت إلى ما يعرف بسلة العملات، فستجد نفسها مرة أخرى مطالبة بتحديد ما هي حصة كل عملة، ومن بينها الدولار، في تلك السلة. 2. على الصعيد الذاتي الداخلي، سيجد قرار توحيد العملة نفسه أمام تركة قديمة موروثة من التطور التاريخي لآليات اقتصادات المنطقة، مصدرها التفاوت في الثروة أولاً، والخطط التنموية والبرامج المنبثقة عنها، أو المنفذة لها ثانياً، وعلى هذا الأساس فالانتقال بالعملة من واقعها الوطني المحدود حالياً، إلى فضائها الخليجي الرحب مستقبلاً، بحاجة إلى مجموعة من القرارات الجريئة، التي باتت تلح على القادة الخليجيين. مثل هذه الخطوة من الطبيعي أن يستفيد منها اقتصاد معين على المدى القصير، على حساب اقتصاد آخر، الأمر الذي يتطلب نظرة بعيدة المدى أولاً، وصدر رحبة ثانياً، وثقة في النفس ثالثاً