^ لم تكن الأزمة الأخيرة أولى الأزمات السياسية والدبلوماسية في العلاقات المصرية السعودية، فعلاقات البلدين كثيراً ما تشهد شداً وجذباً بناء على الاختلاف في الرؤى السياسية، وكثيراً ما تسببت قضايا العمالة والمعتمرين المصريين في نشوب خلافات ومهاترات بين البلدين، لكن الواقع التاريخي كان دائماً يرجح عودة العلاقات بين البلدين بأقوى مما كانت عليه قبل الخلافات. وربما كان الخلاف الأكبر الذي سبب توتراً بين علاقات البلدين لفترة طويلة موقف البلدين من الثورة اليمنية عام 1962م، حين شاركت مصر عسكرياً في عملية إسقاط نظام أسرة حميد الدين، وشاركت السعودية عسكرياً، أيضاً، في محاولة تثبيته، لكن الملك فيصل، رحمه الله، لم يتأخر عن دعم مصر والوقوف إلى جانبها بعد نكسة 1967م، وفي حرب الاستنزاف، وكان له دور لن ينساه التاريخ في إيقاف ضخ النفط لأمريكا أثناء حرب 1973م، الأمر الذي كان له أثره الفاعل في دعم الجيش المصري ومساندته على النصر. الفارق أن الأزمة الحالية تدخلت فيها الشعوب في سياق تاريخي وانفعالي يسمح للشعوب أن تعبر عن رأيها ومواقفها بأساليب قد تخرج أحياناً عن حدود الانضباط، فالمشكلة في أساسها تخص مواطناً مصرياً اتهم بقضية تهريب حبوب مخدرة، وسواء كانت القضية صحيحة قانونياً، أم باطلة وملفقة، كما يزعم بعض المصريين، فإنها يجب ألا تخرج عن إطارها القانوني، وكان يتعين على عقلاء مصر أن يكبحوا جماح دعوات الغضب الغوغائية للتوجه إلى السفارة واقتحامها، كما كان يتعين على عقلاء السعودية والخليج أن يتصدوا للحملات على شبكات التواصل الاجتماعية التي أساءت للمصريين كافة ولتاريخهم وحضارتهم ولقيمهم ولثورتهم كذلك. وقعت الأزمة في وقت يترنح فيه المصريون بين نشوة انتصار ثورة شعبية، وبين معاناة السقوط في الفوضى التي تجتاح كل مصر، ووقعت الأزمة كذلك في وقت يعاني فيه الخليجيون وعلى رأسهم البحرين والسعودية من التدخلات الأجنبية ومحاولات زعزعة الأمن وإثارة بؤر التوتر بركوب موجة الربيع العربي، لذلك حين اشتبك الطرفان، المصري والسعودي/ الخليجي، في قضية هي أبعد عن تجليات واقعهم، دافع بعض المصريين الغاضبين عن موقفهم بأن الثورة تدافع عن كل مصري داخل مصر وخارجها، وهاجم الخليجيون مقتحمي السفارة السعودية بأنهم جزء من الأجندة الخارجية المجندة للإضرار بالخليج، وتحديداً، الأجندة الإيرانية . وعلى الرغم من أن دبلوماسية البلدين وأجهزتهما الإعلامية الرسمية نجحتا في احتواء المشكلة، خصوصاً بعد زيارة وفد مصري عالي المستويات إلى السعودية وبعد الإعلان عن دعم مالي كبير للاقتصاد المصري وإعادة فتح السفارة السعودية وملحقياتها في مصر، إلا أن استغلال مثل هذه الأزمات شعبياً يهدد العلاقات بالتوتر بين الفينة والأخرى، خصوصاً بعد أن أصبحت مكامن إثارة الشعبين، المصري والخليجي، معروفة أزرار التحكم فيها . التقصير في الجانب الأمني كان واضحاً في هذه الأحداث وفي أحداث سابقة أدت إلى حصار السفارة السعودية قبل بضعة أشهر، ولكن من جهة الخليجيين، عليهم ألا يقحموا مشاكلهم (العادلة، والحقيقية) مع إيران في كل شاردة وواردة تخص علاقاتهم مع الآخرين، صحيح أن إيران لن تترك مصر تفلت من نفوذها بعد سقوط مبارك، وصحيح أنها لن تترك، كعادتها، أي حدث دون أن تستثمره لصالحها، لكن منشأ الأزمة كان أمنياً في بدايته، ودور إيران الذي عملت شبكات التواصل الاجتماعية على تضخيمه نفع إيران أكثر مما أضر بها . لقد قامت المجاميع التابعة لإيران بخطوتين دعمت بهما الموقف الإيراني ومن ثم مواقف هذه المجاميع، حيث بينت أن الخطر الإيراني خيال خليجي يلقون به في وجه كل من يختلف معهم، بالتالي نفوا صحة ما يشاع عن تدخل إيران في الخليج واليمن وسوريا ولبنان وغيرها، وروجوا لأنفسهم باعتبارهم أحراراً يطالبون بالعدالة والحقوق المشروعة مساوين بينهم وبين ثوار مصر، هذا من جهة، من جهة ثانية أصدرت هذه المجاميع المختلفة بيانات تضامن مع المواطن المصري الموقوف في السعودية، وساندوا المصريين الغاضبين بوقفات احتجاجية وببيانات تنتقد السياسة السعودية، كل هذا من أجل دغدغة مشاعر المصريين الغاضبة وكسب ودهم ورضاهم، وهذا هو التدخل الإيراني في الأزمة، وهذا هو الاستثمار الإيراني للخلافات العربية - العربية، إنه عمل متسق مع القواعد السياسية والحقوقية التي تزعم إيران ومجاميعها التابعة أنهم ينتهجونها وأنهم سفراؤها في المنطقة. مصر درة التاج العربي، وهي ماتزال معلقة في الهواء، من يريد أن يربح تلك الدرة عليه أن يتفهم الوضع المصري الحرج في هذه المرحلة، وعليه مساعدة المصريين في تخطي حالة الفوضى والتجاذب التي تجعل مصر في مهب نهب الطامحين والطامعين، وإيران متوجهة إلى مصر بقوة، بل موجودة بالفعل، ليس عبر القضايا الهامشية، بل بجيش جرار من المستثمرين الإيرانيين الذي يحملون في حقائبهم مشاريع ضخمة بعشرات المليارات من الدولارات في الزراعة والصناعة والسياحة، وجيش آخر من رسل الولي الفقية المبشرين بالمذهب الولائي في القرى والأنحاء المصرية النائية والفقيرة، والبوابة لدخول مصر ولكسب المصريين في هذه المرحلة تكون بدعم مصر اقتصادياً وسياسياً، وبمساندة المصريين في إنجاز أهداف ثورتهم، فأين الخليجيون من هذا الميدان الواسع والفارغ إلا من سواهم؟!!. مصر والسعودية قاعدتا الارتكاز العربية، بهما يتزن الموقف العربي ويقوى، وبالخلل في إحداهما يختل توازن العرب، الأولى تمثل الثقل العربي في آسيا وهي العاصمة الروحية والدينية للعرب والمسلمين، والثانية تمثل الثقل العربي في أفريقيا، وهي عاصمة الحضارة الإنسانية والفكرية للعالم، لذلك كان المدخل لإضعاف العرب هو العبث في العلاقات بين هاتين الدعامتين، فعلى العقلاء في مصر ألا يغامروا بعلاقاتهم مع دول الخليج في نوبة فخرهم بثورتهم، فأهل الخليج كثيراً ما أثبتوا عشقهم ودعمهم لمصر والمصريين، وعلى العقلاء من أهل الخليج ألا ينجروا وراء دعوات الفرقة والتمزق، وأن يستوصوا خيراً بأهل مصر، وإن جاروا وإن تمادوا في غي غضبهم، فهم خير أجناد الأرض، ولسنا ندري والمخاطر تحاصرنا متى قد نستعين بأجناد مصر
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}