^   العظمة موقف، ممارسة، سلوك، فعل إنساني يساهم في البناء، وإن كنا لم نقرأ بعد العديد من المحطات التاريخية العظيمة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن، علينا أن نعرف شيئاً من البعد السياسي والاقتصادي والإنساني والاجتماعي، لأي حدث من الأحداث التي عملت على زراعة المحبة في تربة الواقع عبر كل الحقب والأزمنة. في التاريخ العربي العظيم كغيره من تواريخ العالم، هناك مشاهد رائعة لا يمكن للمرء إلا أن يقف إجلالاً أمامها مندهشاً من قوتها، ومذهولاً مما تحمله من معانٍ غاية في السمو، لعمقها الإنساني وإمكانياتها الهائلة في اختراق الأزمنة التي يعرفها بنو آدم. من هذه المشاهد القصة التي رواها بقلمه الجميل الداعية الراحل علي الطنطاوي في كتابه (قصص من التاريخ) والشيخ علي الطنطاوي واحد من المتحدثين الذين تربينا على أيديهم ومواعظهم في رمضانات القرن الماضي، وعرفنا من خلاله العديد من الأمور الدينية والدنيوية التي ساعدتنا على فهم أنفسنا والآخرين الذين يعيشون معنا، هذه الحكاية. وقد نشرها صدّيق الغبان في إحدى صفحات الإنترنيت تحت عنوان (أعظم مشهد في التاريخ)، تقول القصة.. نادى الغلام: يا قتيبة.. هكذا بلا لقب، فجاء قتيبة وجلس هو وكبير الكهنة أمام القاضي «جُميْع» ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟. قال: اجتاحنا قتيبة بجيشه ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا حتى ننظر في أمرنا.. التفت القاضي إلى قتيبة وقال: وما تقول في هذا يا قتيبة؟ قال قتيبة: الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية. قال القاضي: يا قتيبة هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟. قال قتيبة: لا إنما باغتناهم كما ذكرت لك. قال القاضي: أراك قد أقررت، وإذا أقر المدعي عليه انتهت المحاكمة.. يا قتيبة ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل. ثم قال: قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء، وأن تترك الدكاكين والدور، وألا يبق في سمرقند أحد على أن ينذرهم المسلمون بعد ذلك. لم يصدق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه، فلا شهود ولا أدلة ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلا والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم، وبعد ساعات قليلة سمع أهل سمرقند بجلبة تعلو وأصوات ترتفع وغبار يعم الجنبات، ورايات تلوح خلال الغبار، فسألوا فقيل لهم إنَّ الحكم قد نُفِذَ وإنَّ الجيش قد انسحب، في مشهدٍ تقشعر منه جلود الذين شاهدوه أو سمعوا به.. وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا والكلاب تتجول بطرق سمرقند الخالية، وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيت على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم. ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر حتى خرجوا أفواجاً وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة ألا إله إلا الله محمد رسول الله.. فيا لله ما أعظمها من قصة وما أنصعها من صفحة من صفحات تاريخنا المشرق، أريتم جيشاً يفتح مدينة ثم يشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج؟ والله لا نعلم شبه لهذا الموقف لأمة من الأمم. بقي أن تعرف أن هذه الحادثة كانت في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، حيث أرسل أهل سمرقند رسولهم إليه بعد دخول الجيش الإسلامي لأراضيهم دون إنذار أو دعوة فكتب مع رسولهم للقاضي أن احكم بينهم فكانت هذه القصة التي تعتبر من الأساطير. إن هذه الحكاية وغيرها من الحكايات العربية، هي ما نريد التأكيد عليه، بأن تاريخنا وتراثنا وتقاليدنا وأيامنا العربية والإسلامية تحمل ما لا يحصى من الحكم والأمثال والمواعظ، والتي إذا قمنا بتطبيقها في أيامنا هذه لاستطعنا التخلص من العديد من المشاكل العالقة في علاقتنا الاجتماعية المحلية والعربية والعالمية. من هنا دائماً ما أؤكد على قراءة مثل هذه الومضات، وتوسيع رقعتها، وتحويلها إلى أحد الدروس الأساسية التي تقدم للطلبة في مدارسهم من أجل تحويلها إلى الفعل اليومي في الحديث والسلوك، فكل ومضة من تاريخنا تحتاج إلى وقفة.. أيها الإنسان؛ اشعر بالعظمة في كل خلاياك، فقد خلقك الله عظيماً، فكن في سمو هذه العظمة.