^ رب ضارة نافعة، هذا ما يمكن استخلاصه مما حدث مؤخرًا بين مصر والسعودية من خلاف قلما يتكرر بين هاتين الدولتين الكبيرتين في إقليم الشرق الأوسط، وهو الخلاف الذي نتج عن “تهور” بعض الشباب وقيامهم بالتجمهر ومحاولاتهم اقتحام السفارة السعودية بالقاهرة والاحتجاج على توقيف المصري أحمد الجيزاوي بمطار جدة مما حدا بالمملكة العربية السعودية إلى إغلاق سفارتها وقنصلياتها في مصر واستدعاء سفيرها رفضاً لهذه الاحتجاجات غير المبررة أمام بعثاتها في مصر. لم يكن من المتصور أن يتصاعد مثل هذا الخلاف العارض أو أن يتطور لأزمة حقيقية بين الدولتين في ظل جملة من الحقائق التي ربما غابت عن المتظاهرين “المندفعين” الذين تورطوا في مثل هذه الأحداث وأولها العلاقة القوية الممتدة بين مصر والسعودية على الصعيدين الرسمي والشعبي وهي العلاقة التي لم تشهد توترات إلا نادراً، إيماناً من الدولتين بأهمية تلك العلاقات المتميزة والراسخة سواء لتحقيق مصالحهما وتعظيم مكاسبهما معاً أو لإقليم الشرق الأوسط بأكمله وتسوية ما به من صراعات وتشكيل رادع عربي قوي ضد كل الطامعين والطامحين في السيطرة على مقدرات الأمة والتحكم في ثرواتها وتوجيه سياساتها. وفي ظني أن إقدام المملكة العربية السعودية على إغلاق سفارتها وقنصلياتها في مصر واستدعاء سفيرها كان موجهاً بالأساس إلى كل من يحاول النيل من تلك العلاقات ونجح بالفعل في التأثير على جزء من الشباب الذي أصبح “ثائراً” دائمًًا وفي كل الأحوال سواء وجد المبرر أم لم يوجد، ولا يريد أن يستمع قليلاً لصوت “العقل” ويتبع “الحكمة” في معالجة مثل هذه الأمور التي تؤثر سلباً على مصالح استراتيجية تجمع الدولتين لعل أوضحها للعيان وجود أكثر من مليوني مصري يعملون في مختلف المهن والوظائف بالمملكة العربية السعودية، فضلاً عن الروابط والعلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية بين الدولتين. أرادت السعودية توجيه رسالة قوية مفادها أنها واعية ومدركة تمامًا للمحاولات “الخبيثة” التي تقوم بها بعض الأطراف الخارجية التي تحاول تحريك أصابع خفية وجهات داخلية في الدول العربية لتخريب العلاقات بين تلك الدول، وأنها قادرة على ردع تلك الدول وصد تلك المحاولات، وربما هذا يفسر ضعف أو بطء التحرك الرسمي المصري إزاء هذا الخلاف مع الجانب السعودي، فهو يدرك أن ما بين الدولتين أكبر كثيرًا من هذه المهاترات التي حدثت، وواثق من أن العلاقات ستعود سريعاً كما كانت وإن كان هذا لا ينفي بالطبع ضرورة أن يكون التحرك فعالاً وسريعًا دون الاعتماد فقط على النوايا الطيبة والعلاقات الحسنة. ولذلك، لم يكن غريبًا أن تنجح الدبلوماسية الشعبية في حل هذا الخلاف وإعادة السفير السعودي إلى مصر بعد زيارة للرياض ووساطة قام بها وفد برلماني وشعبي مصري التقى خلالها العاهل السعودي وكبار المسؤولين بحثاً عن حل للأزمة، وقد جاء الحل سريعاً حيث أمر الملك عبدالله بن عبدالعزيز عقب هذه الزيارة مباشرة بإعادة السفير السعودي إلى مصر وإعادة فتح السفارة وكل من قنصليتي المملكة في الإسكندرية والسويس. وقد حملت هذه الخطوة دلالات عدة أهمها رفض مختلف أطياف المجتمع المصري لما قام به المتظاهرون من احتجاجات ومحاولات اقتحام للسفارة والقنصليات السعودية، فقد جاء الوفد المصري ممثلاً لمختلف شرائح وقطاعات المجتمع من برلمانيين ورجال دين وفنانين وغيرهم، وذلك انتصارًا لصوت العقل والمنطق وحماية لما يربط بين مصر والسعودية من علاقات وكي لا يتسبب خلاف عابر في حدوث أزمة بين دولتين مؤثرتين في الإقليم. كما يؤكد هذا النجاح في مهمة الوفد الشعبي المصري التقدير السعودي لدور مصر ومكانتها ورغبتها الصادقة في مساعدتها على الخروج إلى بر الأمان وتجاوز تلك المرحلة الصعبة من تاريخها، والرد على كل “يشطح” في خياله ويشكك في مصداقية وشفافية الدعم السعودي لجميع الدول العربية وفي مقدمتها جمهورية مصر العربية. وأخيراً، يشير هذا النجاح إلى الدور الذي يمكن أن تقوم به الدبلوماسية الشعبية في حل الأزمات والخلافات التي تحدث بين الدول العربية وخاصة إذا امتلكت مقومات النجاح من البداية وأبرزها العلاقات الطيبة والرغبة الصادقة في إنهاء الخلافات.