^ تحركت الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها على محورين متناقضين بين العمل الميداني والتنظير والخطاب الرنّان الدعائي، في سياستها الخارجية والداخلية، حيث أبهرت كثير من السذَّج في العالم العربي والإسلامي، فهرول وراءها البعض دون معرفة بالحقيقة وانجرف خلف دعاياها كثير، وانطلاقاً من هذا الأساس الذي بُنِيَ على التناقضات السياسية، التي تعاطت مع الثورات العربية وبنفس المنهج ونفس السلوك. فساندت نظام الأسد بكل ما يرتكبه من جرائم بحق شعبه المسلم من جهة، ومن جهة أخرى أعلنت حمايتها الدعائية للثورات العربية الأخرى في مصر وتونس وليبيا، واعتبرتها إسلامية بامتياز ومتأثرة بثورة عام 1979، ونوعية تنظيرها المتمثل بإيدولوجية ولاية الفقيه. وانطلقت حكومة الولي الفقيه من هذه الرؤية، لكن كثيراً من الإيرانين يسألون أليس الشعب السوري الذي وصل عدد شهدائه إلى عشرة آلاف ويذبح يومياً على يد بشار الأسد شعباً مسلماً؟ من الطبيعي أنَّ الجمهورية الإسلامية تعرف أنَّ النظام السوري يقتل المسلمين الذين تدَّعي حمايتهم، كما تعرف أكثر أنَّ التيار الإسلامي في الثورة السوريه هو الأقوى والأكثر عدداً ميدانياً، لكن لماذا تغض الطرف عن هذه الثورة وتساهم في قتل السوريين، كما ذبحت الإيرانيين في ثورتهم الإصلاحية السلمية، التي سميت بالحركة الخضراء، وفضيحة “كهريزك” التي كشف عنها كروبي واغتصاب المعتقلين كان أفضل مثال على انتهاكها لحرمة المسلمين والإسلام والقيم الأخلاقية، وأثبت مدى صدق دعاياها في حماية المسلمين. تقيّيم حكومة ولاية الفقيه في عرف حكومة طهران مقياس الصح والخطأ والإيجابي والسلبي وبالنهاية الحق والباطل بالنسبة للأحداث، ولتطلعات الشعوب يتعين من خلال مقياس ومقدار تقارب تطلعات الشعوب مع أهداف وتطلعات حكومة ولي الفقية، فكلما كانت قريبة من أهدافها التوسعية ومصالحها الضيقة الطائفية الانتقائية، فهي حق وإيجابية وصحيحة، مهما كانت حتى ولو تمَّ ذبح كل المسلمين طالما هي تنسجم مع طموح الولي الفقيه فلا بأس بها، أما إذا كانت التطلعات تختلف شكلاً ومضموناً ومنهجاً مع أهداف وطموحات جمهورية ولاية الفقيه فهي مؤامرة أمريكية صهيونية، وثورة مزيفة وبالتالي باطلة وغير صحيحة. من هذه الرؤية والتعبير والمقايس تنظر إيران للثورة السورية، فهي ضد حليفها أولاً وتياراتها إسلامية من نوع آخر يختلف تماماً مع تنظيرات “الولي المطلق الفقيه” لذلك فهي باطلة، نفس المقياس والرؤية ينطبق على الحركة الخضراء في إيران، لأنّها رفضت سلطة ولي الفقيه فهي مؤامرة أمريكية وغربية. أوهام قيادة العالم الإسلامي تتوهم الجمهورية الإيرانية أنَّ ثورتها الإسلامية انتشرت في العالم ووصل صوتها بكل أنحاء الأرض ولكل الشعوب، حيث أنَّ الشعوب آمنت بالحلول التي أتت بها هذه الثورة وحكومة الولي الفقيه، كما توّصلت الشعوب اليوم أنَّ عليها أنْ تحدث ثورة إسلامية بعد نسخ التجربة الإيرانية، وأنْ تؤسس حكومة من طراز حكومة ولاية الفقيه كي تستطيع أنْ تحافظ على حقوقها من “الإمبريالية العالمية والشيطان الأكبر”. لذا اعتقاداً بهذه الأوهام غير الواقعية ترى نفسها في خندق المعاداة لأمريكا والغرب، وانطلاقاً من هذا الوهم قال خامنئي لأردوغان عند لقائه به في طهران “إنَّ إيران تعارض أية إصلاحات أمريكية أو غربية في سوريا”، ولا أعرف إنْ كان خامنئي نسي أو تناسى أنَّ الإصلاحات بكل أنواعها هي إصلاحات، ولا فرق بين أنْ تكون أمريكية أو عربية أو شرق أوسطية، فهي في المضمون والتعريف لها معنى واحد، اللهم إلا في قاموس “ولاية الفقيه” للإصلاحات فيختلف تماماً عن المعاني والمفاهيم في العالم. من خلال تصريحات كهذه يتبيّن للجميع مدى افتقار القيادة الإيرانية للتعاريف السياسية السائدة في عالمنا اليوم، ومدى إفلاسها وعجزها عن إعطاء رؤية صائبة وحكيمة وعقلانية في التحليل للأوضاع السياسية من حولهم. فالحكومة الولائية بمواقفها التعنتية وأساليبها العنجهية في دعم نظام بشار الأسد الإجرامي، تنفق ثروات الشعب الإيراني لقتل وذبح الشعب السوري، والشعبين يدفعون ضريبة التخلف والأوهام، التي يعيشها نظام الملالي في طهران. تبرر طهران هذه المواقف اللاأخلاقية، بأنّها تنطلق من عدائها لديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية، وهي لا تريد إصلاحات في سوريا ولا ديمقراطية، كما أشار خامنئي في لقائه مع أردوغان، وأكّد هذه الرؤية علي أكبر صالحي عند لقائه مع كوفي عنان عندما قال “نحن نؤيّد وندعم إصلاحات الأسد في سوريا”، ما يعني أنه لا قيمة عند الجمهورية الإسلامية لعشرة آلاف مسلم ضحوا بأرواحهم من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، كما إنَّ حكومة الولي الفقيه لم توضح ما هي نوعية إصلاحاتها وإصلاحات حليفها الأسد؟ وما الذي يجعلها تقبل إصلاحات من نوعية الأسدية وولاية الفقيهية وترفض إصلاحات الآخرين السائدة بمفاهيمها المعروفة في كل العالم؟ وعلى أيِّ أساس يعتبر نظام الملالي إصلاحات حليفة أفضل من الإصلاحات التي يسميها أمريكية؟ أليس هذا استخفافاً بعقول المسلمين والإنسانية والعالم المتحضِّر؟ ومن التبريرات الأخرى لنظام ولاية الفقيه في دعمه للأسد، ومساهمته الميدانية في قتل أبناء الشعب السوري، هي أنَّ نظام الأسد ضد إسرائيل، لكن لو تمعنّا في هذه القضية وبنظرة منصفة وثاقبة للتاريخ المعاصر والنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي سنرى أنَّ المجازر التي ارتكبها الأسدان (الأب والابن) بحق الشعبين السوري والفلسطيني أوقعت أكثر مما سقط في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، 50 ألف من السوريين قتلوا على يد حافظ الأسد في حماة عام 1982، واعترف رفعت الأسد أخيراً بثلاثين ألفاً، و10 آلاف لغاية اليوم قتلهم بشار الأسد، في حين أنَّ الأسدين لم يطلقا طلقة واحدة طيلة حكمهما على إسرائيل، بل دمرا المدن السورية بالدبابات والطائرات، وقتلا النساء والأطفال والشباب والشيوخ. إذاً النظام الإيراني ليس صادقاً بالدفاع عن المسلمين ولا تهمه هذه الأمور، بقدر ما تهمه مصالحه وطموحاته التوسعية، وفي الواقع يتبين بوضوح أنَّ لا قيمة للإنسان والإنسانية في منهج ولاية الفقية، وإلا كيف يسمح بقتل عشرات الآلاف بحجة الدفاع عن غيرهم، وهذا يوضح للجميع أنَّ دفاع النظام الإيراني عن فلسطين، ما هو إلا وسيلة لكسب الشرعية من خلال هذه القضية، ولو سمحت الظروف وتلاقت المصالح يوماً سيذبح النظام الإيراني الفلسطينين كما ذبح السوريين، لأنَّ النظام لا يهمه الإنسان ولا الإنسانية ولا الإسلام ولعلَّ دعمه لجمهورية أرمينا ضد أذربيجان المسلمة الشيعية خير دليل على هذه الحقيقة. أهمية النظام الأسدي لحكومة ولاية الفقية سهّل نظام الأسد لإيران أنْ تلعب دوراً مخرباً في العالم العربي، الذي يعتبر من أهم المناطق في العالم اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، ومهّد لإيران بكل إمكانياته اللوجستية والجغرافية لبسط نفوذها في العالم العربي، خصوصاً فيما يتعلق بلبنان زمن الاحتلال السوري، حيث كانت إيران تسرح وتمرح في لبنان وكأنّما هي ضاحية أو محافظة من إيران، حيث تباهى في نفوذها سليماني وقال “إنَّ لبنان تحت سيطرتنا”، وأدى النفوذ الإيراني في لبنان إلى الانقسام الذي تشهده لبنان، وزرعت إيران فتنة الطائفية في كل العالم الإسلامي والعربي، وما كان يتمّ هذا لولا المساعدات الأمنية السورية، فكل الاختراقات الأمنية في العالم العربي تتمّ من خلال النظام الأسدي خدمة لإيران، فسقوط الأسد يكون كارثياً على إيران، لهذا تخشى إيران من سقوط الأسد، ولو كانت صادقة في دعمها للثورات العربية فلماذا تخشى الثورة السورية، الجواب واضح، لأنَّ الثورة السورية، بل كل الثورات العربية، ليس لها أية علاقة لا من بعيد ولا من قريب بإيدولوجية ولاية الفقيه، وبات معروفاً للنظام أنَّ شعار تصدير الثورة أصبح من الأوهام، خصوصاً بعد الانتهاكات والظلم والبطش وشرعنة الديكتاتورية باسم الدين، حيث عرفت كل الشعوب الواعية بالمنطقة، لهذا كانت ثوراتها تختلف تماماً عن النسخة التي يتمناها المرشد خامنئي، ولو كان النظام يضمن أنَّ البديل القادم في سوريا سيلبّي مطالبه التوسعية مثل الأسد، لباع الأسد بأرخص الثمن. الأوهام التي تجعل نظام ولاية الفقيه معادياً للمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، التوّهم في قيادة المسلمين، وأنَّ خامنئي وَلِيَ أمرالمسلمين في العالم، جعل النظام يعيش في حالة استعلائية في تصرفاته مع البلدان الأخرى، وعلى هذا التوهّم والتفكير غير الواقعي يخالف الدول الكبرى في كلِّ مشاريعها وخطواتها في الأحداث، إيجابية كانت أم سلبية، وفي سياق نفس التوهّم لزعامة المسلمين يرى النظام نفسه ليس معارضاً لأمريكا فحسب، بل معارضاً ومخالفاً ومعادياً للمملكة العربية السعودية، التي تشكِّل أكبر ثقل من حيث النفوذ في العالمين الإسلامي والعربي على حد سواء، والرائدة في دعم كل القضايا الإسلامية العادلة، فإنَّ صراعه وتحركاته ضد المملكة تنطلق من رؤيته الوهمية أيضاً، لأنَّ النظام الإيراني يرى في المملكة منافساً حقيقياً لمزاعمه في زعامة المسلمين أولاً، وسدّاً منيعاً في تدخلاته غير المحدودة في العالم العربي، خصوصاً دول الخليج ومنها البحرين، الذي حاول بكل جهد زعزعة أمنها واستقرارها وزرع الفتن الطائفية فيها وفي العالم الإسلامي ثانياً، كما يرى للمملكة ثقل ومكانة تضيّق عليه الخناق أيضاً. يعتقد نظام ولي الفقيه أنه ميزان للحق والآخرين هم الباطل، لأنَّ الولي يعتبر نفسه خليفة الله ورسوله والأئمة والإمام المنتظر على الأرض ويستمد شرعيته من الإسلام وهو مدافع عن المسلمين، لكن الذي يثير الاستغراب كيف لنظام يؤمن بالدفاع عن المسلمين يساهم ميدانياً في قتل السوريين المسلمين، وكيف ساند أرمينيا ضد أذربيجان المسلمة الشيعية؟. فدوافع الجمهورية الإسلامية ليست اعتقادية كما يتصوّر البعض وليس دينية، إنمّا مصالح وسياسات توسعية بحته، كثيراً ما سمعنا من القيادات في إيران، وخاصة المرشد خامنئي أنَّ خلافاتهم مع الولايات المتحدة بسبب السياسة التوسعية الأمريكية التي تأتي على حساب الشعوب، لكن دعم إيران للأسد من أجل نفوذها في لبنان والعالم العربي أليس على حساب قتل الآلاف من أبناء الشعب السوري؟ الثورة السورية أثبتت زيف شعارات إيران ودعمها للثورات، هذا أكبر إنجازاتها لكل المنطقة التي كانت مغشوشة بشعارات ولاية الفقيه. في الواقع حماية ودعم الأسد تُظهر مدى مصداقية الدولة “الإسلامية” في دعاياها التي طبّلتْ فيها طيلة الثلاثين سنة الماضية، ومدى احترامها لقيمة الإنسان والإنسانية. كما إنَّ الحكومة الإيرانية في سياق الأوهام التي أشرنا لها ترى نفسها صاحبة الأمر لكل المسلمين ومحقة، ولها الاختيار في التدخل في شؤون الآخرين، من هذا الاعتقاد والوهم السخيف طالب خطيب الجمعة في طهران المسلمين “بفتح البحرين واحتلالها” وكأنَّ شعب البحرين وحكومته ليسوا بمسلمين. كثير يتساءلون إذا كانت إيران عدوة للغرب وللولايات المتحدة بسبب أنهم غير مسلمين وضد المسلمين، إذاً ما الذي يبرر معاداتها للمملكة العربية السعودية والبحرين وغيرها؟ وفي الواقع سؤال في مكانه لأنَّ المملكة مسلمة شعباً وحكومة والمفروض أنْ تكون علاقة إيران وطيدة بها، لكن سياسات حكومة ولي الفقيه اللاعقلانية والمتهّورة، هي التي أدّت إلى كل هذا التدهور في العلاقة بين البلدين، ولو نظرنا إلى مواقف البلدين فيما يخص الثورة السورية، نرى أنَّ المملكة وقفت من منطلق الأخلاق والقيم مع الشعب السوري وثورته رغم كل الظروف والتحديات، لكن نظام ولي الفقيه خلافاً لكل الدول الإسلامية والعربية ساهم وشارك بالمال والسلاح في قتل السوريين، وللأسف نظام كهذا يريد زرع البلبلة والفتن الطائفية في المنطقة لسياساته التوسعية وتدخله السافر في شؤون مملكة البحرين ينطلق من هذه السياسة التوسعية، والتوهم في زعامة أمور المسلمين الذين لم ولن يطلبوا منه يوماً ما تمثيلهم، ويذكرنا هذا بالمثل الذي يقول “لو كان الغراب دليل قوم لأدلهم على الخرائب”. في الواقع حكومة ولاية الفقيه لم تستقر يوماً دون افتعال الأزمات، والمناورة في ساحاتها بغية خلق الدعاية للاستهلاك الداخلي وللاستمرارية بالحكم والسلطة، التي لم تتماش مع أية نوعية من سلطة الحكومات في العالم ولا تنسجم مع العصر وتطلعات العالم الراقي، بكل توجهاته لقضايا حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والسلام والعيش الكريم، ورغم كل ما فعلته هذه الحكومة إلا أنَّ الوعي الجماهيري المتصاعد في إيران سيغيّر كل المعادلات في المستقبل القريب، حتى ينهار هذا البرج الوهمي في “قيادة المسلمين”، وإن كان النظام الإيراني مازال يعيش في أوهامه ونائماً في سبات عميق يتجاهل الكوارث التي تزحف إليه خطوة بعد الخطوة، ومتجاهلاً كل ما حوله، لكن صمود الشعب الإيراني والشعوب الأخرى في المنطقة سينهي كل الأوهام، أما ما سيبقى للجمهورية الإسلامية في نهاية المطاف فهو الإفلاس والخيبة والخزي.. هذا ما تنبئ به الأحداث والتطورات السريعة. ترجمة موسى الشريفي —
970x90
{{ article.article_title }}
970x90