ما زلنا مع الآية المباركة، آية الكرسي، لنقف مع معانيها النيرة، يقول الله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه : الشفاعة طلب الخير للغير عند الغير، وهي تكون في أمور الدنيا، وآما الآخرة كقوله تعالى: “ولا يشفعون إلا لمن ارتضى” وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله عز وجل وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة... كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : (ثم آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع) فلا شفاعة إلا بإذن الله إذن لمن يشفع ولمن يشفع له قال تعالى: “يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون”. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ما مضى من الأمور وما يستقبل، هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال تعالى إخباراً من الملائكة، وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء: أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل كما قال سبحانه: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً. وسع كرسيه السموات والأرض عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وسع كرسيه السموات والأرض فقال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، فالسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة، وقيل أنها كدراهم ألقيت في ترس، فسبحان الله رب العرش العظيم. ولا يؤوده حفظهما: أي لا يثقله ولا يكترثه ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض سبحانه وتعالى، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) أي ما مسنا من تعب. وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شي، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه. وهو العلي العظيم فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم سبحانه وتعالى، الذي تتضاءل عنده جبروت الجبابرة، وتصغر عنده أنوف المتكبرة، وهو الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. من فوائد آية الكرسي أهم ما يستفاد من هذه الآية الكريمة: إخلاص العقيدة والعبادة لله رب العالمين، فهو تعالى الواحد الأحد لا رب غيره ولا معبود سواه. وبـيـان لــكمــال صفات الذات وصفات الأفعال من خلال وصفه، لذلك كان على المسلم أن يسعى إلى الحياة الطيبة بالإيمان والعمل الصالح، وأن يراقب مولاه في كل أعماله، فهو تعالى القائم على كل نفس بما كسبت وعليه أيضاً أن يفوض أمره كله للحي القيوم. والإكثار من الدعاء بالحي القيوم فبها تحيى القلوب وتنشط العقول، والتوسل بهما أدعى وأرجى للقبول. ومن فوائدها أنه لا علم للبشر إلا ما علمهم الله، ومهما أوتوا من العلم، ومهما ارتقوا في درجاته فعلمهم قليل وعقولهم قاصرة، ولا سبيل للمعرفة الكاملة والإحاطة الشاملة بالمحسوسات المشاهدة فضلاً عن الحقائق الغيبية. وفي الآية دعوة ضمنية للإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، فكل ما في الكون خاضع لمشيئة الله تعالى سبحانه القائل: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون) سورة القصص 68 وقال سبحانه: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين) سورة التكوير 29 الإيمان بعظمة وسعة ملكه على وجه العموم، والإيمان بالكرسي، والإيمان بقدرته على حفظ السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، والإيمان باسم الله (العلي) فيه حظّ العبد من هذا الاسم الجليل أن يكون عالي الهمة بالإيمان والعلم والعمل الصالح عالياً باتباع الحق، وأن لا يتعالى على الحق وأهله. وفي آية الكرسي ردود على شبهات وأباطيل أعداء الدين. فيها رد على المشركين الذين زعموا وجود آلهة أخرى، تعالى الله عما يشركون قال تعالى (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُو)، فلا رب غيره ولا معبود سواه. وفيها رد على الملاحدة الذين أنكروا وجود الله تعالى متجاهلين وغافلين عن آيات الله الكونية والإنسانية وعن الأدلة الظاهرة والحجج الباهرة التي تشهد لله عز وجل. ولـلـه فـي كــل تــحريـكـة وتسكينة في الورى شاهد وفي كــل شيء لــه آيـة تــــدل عـلــى أنــه واحــد فياعجباً كيف يعصى الإله أم كـيـف يـجـحـده الجاحـد وقد جاء عند الترمذي وغيره وهو في صحيح الجامع حديث عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت). فهذه الآية العظيمة التي هي أعظم آية في القرآن حرز من الشيطان لمن قرأها وتكون سبباً في دخول الجنة لمن حضر الصلاة ثم قرأها مع أذكار الصلاة... إنما كانوا يقرؤون القرآن ويعملون به، والقراءة عمل اللسان فلا بد من القراءة لمن أراد الأجر والحرز من الشيطان.