كتب - علي الشرقاوي: بين دكان السيد؛ دكان الفتيان الراكضون كأمواج البحر إلى آفاق المستقبل، ودكان جمعة الشخصي؛ دكان كبار السن، الحاملين على ظهورهم تجارب السنين. مسافة لا تتعدى 100 متر، لكنها تجمع عالماً كبيراً، يحتاج إلى آلاف الصفحات؛ للكتابة عنه. في هذه المساحة الصغيرة، حيث يلتقي الأهالي لشراء الخبز و«الباجلا” و«النخي”، عاشت مجموعة من كبار اللاعبين في البحرين، في الخمسينيات وبداية الستينيات. ومن هذه المساحة خرج فنانون وكتاب وشعراء. وعلى هذه التربة سارت أحلام، بعضها تعثر في الطريق فانتهت قبل بدايتها، وبعضها واصل إلى منتصف الطريق ثم توقف، والقليل من استطاع شقّ طريقه والصعود إلى جبال الصعاب، ليكون له صوت خاص مميز بين الأصوات. أول سيارة في «الفريج» في حوار أجراه الزميل عبدالرحمن صالح الدوسري؛ مع ابن صاحب الدكان حمد جمعة الشخصي؛ ذكر حمد أن تسمية والده جمعة الهاجري بالشخصي جاءت نسبة إلى أول سيارة شخصي اشتراها في “الفريج”، من راشد بن جبر الدوسري وامتلكها، وكان يخدم بها جيرانه بتوصيلهم إلى السوق بالمجان. وقال حمد: كان والدي أول من افتتح دكاناً في الحورة، كان ذلك العام 1937م، وكانت بدايته في أن تحول هذا الدكان إلى مركز تجمع لأبناء “الفريج” بعدها أصبح أول مقر لفريق الوحدة. وكان والدي ممثلاً للعرب في “الفريج”، فيما كان آخوند عوضي هو من يمثل العجم. والسبب أن البلدية كانت في تلك الفترة، توزع معونات على الفقراء وكان والدي من يتسلم معونات العرب في “الفريج” ويقوم بتوزيعها على الفقراء بدوره. دكان الشخصي بنك من لا بنك له وأضاف الشخصي: “في تلك الفترة أيضاً؛ كان العمانيون يدخلون البحرين بالفيز “التأشيرات”، وكان والدي مسؤولاً عن استخراج هذه التأشيرات لهم. وكانوا مجموعة كبيرة تعيش بيننا في الحورة، تربت في هذا الحي، وعشنا وإياهم إخوة. وكانت للوالد عدة أدوار خدماتية في الحورة، إذ كان يقوم بدور البنك، فكل واحد في “الفريج” يمتلك مبلغاً من المال؛ كان يودعه لدى الوالد يحفظه له في “التجوري”. وكان والدي يمتلك دفتراً شبيهاً بالذي كان يمتلكه “النواخذة” أيام الغوص ويسجلون فيه السلفيات للغاصة. ويقوم والدي بتسجيل اسم الرجل الذي أودع المال والمبلغ؛ وبالتالي يبصم صاحب المبلغ؛ لأن الناس في تلك الفترة كانوا يجهلون القراءة والكتابة. أيضاً كان دكان الوالد ملتقى أهل “الفريج”، وكان يتصدره في تلك الفترة “راديو بورش” الذي يعمل بالضغط عليه بالزر، وهو من الأشياء المتطورة في تلك الفترة. وفي الدكان أيضا الألعاب؛ كـ«الكيرم” و«الدامة” و«الدومنة”. وكان يحتوي المشروبات كـ«السينالكو” و«الفانتا” و«الكنادراي” و«البيبسي”، وكان بمثابة الملتقى لأهل “الفريج” للتعرف على أحداث العالم عبر الإذاعات العربية والعالمية. وفي الساعة العاشرة من مساء كل يوم؛ كان يزدحم الدكان بالحضور؛ بسبب خطاب أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب. وكان الجميع يجلسون دون حراك، وتتوقف الألعاب والأحاديث الجانبية، والكل ينصت إلى أحمد سعيد. ومن برامجه “أكاذيب تكتشفها حقائق”. حيث كان الناس في تلك الفترة طيبون لأبعد الحدود، ومتعاطفون مع الثورات العربية، وبالخصوص قضية فلسطين، والقضية المصرية، والعدوان الثلاثي على مصر”. الكل للواحد والواحد للكل وبِشأن أيام الطفولة قال حمد الشخصي: “ فتحت عيني على حياة وعلاقات جميلة في الحورة، كان الجميع بمثابة الأهل؛ يدخلون بيوت بعضهم البعض بكل احترام ويأكلون من وجبة بعضهم البعض، ويتشاركون في توزيع ما يمتلكونه من أكل وملابس، وحتى في حفلات الزواج تجد أن الشباب يعملون على إنجاح هذا الفرح، فالجميع يعمل ويشارك وكأنه هو العريس. فهناك من يأتي بـ«المطارح” من بيته لتجهيز “الفرشة” أو يأتي بـ “المساند” أو “المناظر” “أم الطير”، وبعضهم يفصّل “الخام” الأخضر ويطرّز به “الفرشة”، والبعض يشارك في طبخ “اللاجرة” للعرس. وتجد النساء والرجال مثل خلية نحل لا تتوقف، ويلغون ما بينهم من فوارق؛ فلا تاجر ولا فقير”. ذكريات مسجد بو شقر كان مسجد بوشقر؛ من أهم الأماكن التي يلتقي فيها أهالي هذه البقعة من الحورة ، وهو المسجد الذي بناه أحمد يوسف بو شقر منذ فترة طويلة. وافتتح المسجد الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة، بعد تجديده، الأربعاء 18 مايو 2007. وتمت إعادة بنائه على نفقة المحسنة عائشة محمد أحمد “حرم المرحوم حاجي محمد ملا حسن آخوند العوضي”؛ بإشراف لجنة الأعمال الخيرية بجمعية الإصلاح. وتم تكريم إمام المسجد ملا محمود لإمامته المسجد لفترة تزيد على 50 سنة. بيت بو شقر ونحن نتكلم عن مسجد بو شقر؛ علينا العودة إلى هذه العائلة الكريمة، خصوصاً وأن طفولتي ارتبطت بهذا البيت، نتيجة علاقتي بابنهم يوسف بوشقر، فعن طريقه تعرفت على العائلة كلها تقريباً؛ والده ووالدته وأخوه الأكبر أحمد، الذي كان يعمل وقتها في إدارة العمل وأخوه الأصغر جمال وأخواته؛ فوزية وثاجبة و وداد، بالإضافة إلى أبناء عمومتهم؛ بدر وفوزي بو شقر، ومحمد بو كوات، وعبدالعزيز وفؤاد بو شقر، وأحمد يوسف بو شقر الذي غادرنا إلى الإمارات العربية أواخر الستينيات. أنور ياسين الذي تعلمت منه «الشقلبة» بيت ياسين واحد من البيوت التي أعرفها جيداً، لأن في هذا البيت عاش مبارك ياسين، ويوسف ياسين؛ واحد من لاعبي فريق النسور في الخمسينيات، وأخوه الأصغر أنور، الذي رافقني في رحلة الصبا أيام الستينيات، عندما كنا نلعب معاً على ساحة التيل. وتعلمت منه “الشفلبة” والسير على اليدين، بالإضافة إلى القفز على مجموعة “درامات” أي براميل. كان أنور ياسين من اللاعبين المتميزين في الحورة، و كان القلب النابض في فريق العربي، وبعدها انضم إلى فريق النسور، إلا أنه ترك اللعب؛ بعد أن حصل على وظيفة في دائرة الكهرباء، حيث كان أخوه الأكبر يوسف موظفاً فيها. كان أغلب الشباب من عمرنا من عشاق عبدالحليم حافظ ، وكان من أكثر المتحمسين لعبدالحليم أنور ياسين ويوسف عبدالعزيز، ففي الوقت الذي لا يكون لدينا موضوع للحديث فيه، كانت أغاني عبدالحليم هي اللغة المشتركة. يوسف عبدالعزيز فنان توقف كنت معجباً بتجربة يوسف عبدالعزيز؛ الذي كان ماهراً في العزف على “ الماصول” أو كما يسميه البعض “المزمار” أو الناي. ونتيجة لعدم التشجيع؛ ولأنه كان فاقداً لروح التحدي والإصرار والرغبة في أن يكون متميزاً بين أصحابه؛ لم يستطع المواصلة، وبقت الأنغام التي كان يعزفها لنا؛ في ذاكرة من عاش معه أو زامله؛ في تلك الفترة المزدحمة بالآمال والتطلعات والانتكاسات أيضاً. عبدالرحيم زين يغادر العالم باكراً كان يسكن قريباً من بيت عبدالحميد القائد، أحد القريبين من عمرنا، وهو عبدالرحيم زين. فجأة وبصورة غير متوقعة، بعد أن دخل مرحلة البلوغ، بدأ الشيب يظهر على شعر راسه ولحيته، ثم أصيب بالصلع، وبعد فترة مات. كانت هذه التجربة من التجارب القاسية التي مررت بها شخصياً. وتساءلت حيتها؛ لماذا يموت الصغار وهم يدخلون أول مرحلة من مراحل المراهقة؟!. بيت ناصر بيت الفنانين لو حدثنا أحد الأشخاص بوجود بيت تسكنه مجموعة من الفنانين الإخوة؛ لما صدقناه، واعتبرناه “بو شلاخ” ويزايد، لكن في الحورة، قريباً من بيت السيد، كان هذا البيت هو بيت ناصر وأخوه أحمد. في هذا البيت تعلم جاسم ناصر على الأورغ، وبعد فترة تعلم أخوه لاعب فريق العربي بدر ناصر، ومن ثم أخاهم الأصغر محمد. ثم أبناء وبنات عمهم الكفيفة سميرة أحمد، والكفيف علي أحمد، الذين أثبتا للعالم أن فقدان حاسة البصر؛ لا يعني فقدان العطاء في هذه الحياة. حتى فتح جاسم ناصر له إستديو للتسجيل، فيما شكّل محمد ناصر فرقة موسيقية خاصة به. أما بدر ناصر فرحل عن هذه الدنيا وهو في بداية العطاء، تاركاً محبته في قلوب من صادقه وزامله وعايشه في تلك الفترة من الزمن. شجرة الدنانير كنا صغاراً، وكنا أكثر براءة مما نتصور؛ نشتري حلوى “البهلوان” من دكان جمعة. ولهذا عندما قال لنا جمعة الشخصي إنه يمتلك شجرة دنانير صدقناه مباشرة دون أدنى شك. وسألناه كيف يمكننا زراعة هذه الشجرة وبماذا نرويها وكيف نستطيع أن نقطف أوراقها دون أن نجرح أيدينا. بسذاجتنا تصورنا أنها مثل شجرة الورد الكبيرة؛ التي في حجم السدرة، ولا بد أن يكون فيها أشواك؛ قال: إنكم سترونها بأنفسكم. ودخلنا إلى مخزن الدكان لمشاهدة هذه الشجرة الغريبة العجيبة التي نسمع عنها لأول مرة في حياتنا، لكننا لم نر شيئاً غير الظلام، قال افتحوا أعينكم؛ فتحناها على سعتها ولم نر شيئاً، ربما كان هناك رهان بين جمعة الشخصي ورواد الدكان. خرجنا وكان “الشيّاب” يسخرون من سذاجة الفتيان . «شيعلمونكم في المدارس مـا تــعرفــون التليفــون»؟! لا أتذكر بالضبط السبب الذي جعلني أتورط بالاتصال بالتليفون؛ فقد حدث أن أصيب أحد الأشخاص بنوبة، أو أغمي عليه. المهم أني ركضت إلى دكان جمعة الشخصي، الدكان الوحيد الذي يملك تليفوناً. وطلبت منه الاتصال بالإسعاف، قال لي اتصل أنت. تساءلت: كيف أتصل؟ ولم أضع يدي على أي تليفون. فتح الخط وقال لي تكلم؟ تساءلت: ماذا أقول وكيف أتكلم مع شخص لا أراه. تلعثمت وكاد أن يغشي عليّ بعد أن تصببت عرقاً، وتركت السماعة. غضب مني جمعة الشخصي وتكلم في التليفون وحدد لهم المكان. وبعد أن انتهى جاءني ساخراً مني ومن التعليم وقال لي بالحرف الواحد “شيعلمونكم في المدارس ما تعرفون التليفون”. سألت نفسي: ما دخل المدارس بالتليفون؟!. الخباز لكل واحد في البيت مهمة يقوم بها، ولأنني آخر العنقود، لم أكن مدللاً كما يتصور البعض، لأن هناك أعمال يجب أن أقوم بها؛ من أهمها إحضار الخبز من الخباز، في كل الظروف، سواء في فصل الشتاء القارس، الذي لم تعرف البحرين مثله من قبل، أعني شتاء العام 1964م، وكان الماء يتجمد في الأنابيب لشدته. وقد أخرج الأسماك من البحر إلى اليابسة، حيث أخبرني جارنا الجميل إبراهيم حيدر، الذي يسكن مقابل بيتنا في شارع أبو ذر الغفاري، ويعمل في بواخر ميناء سلمان. رأيته مرتدياً “جاكيت” الصوف وهو يتقدم من بيته ، قال لي من بين لفات الغترة التي تكاد تغطي رأسه: “السمك لاث على البحر، ولكن من يستطيع أن يخرج في هذا الجو لجمعه”. حميد القائد يكتب قصائدي بخط يده لم يكن خطي في الكتابة جيداً، وبعد أن رأيت عبدالحميد القائد يكتب قصائده بعناية؛ طلبت منه أن يكتب قصائدي بخط يده، فكتب مجموعتي الشعرية الأولى “بيادر الأحزان” التي لم تر النور؛ لأنها كانت بدايات تجربة، تفتقد لكثير من عناصر الشعر الحقيقية، لكنني كنت أقول دائماً؛ انه لا بد من التمرين لاكتساب مهارة اللعب، ولا بد من الكتابة للتوصل إلى الكتابة الأجمل، مردداً الحكمة التي تقول ( لو لم تكن هناك لما وصلت هنا) بمعنى أن الذي يواصل في طريق الحلم لا بد وأن يصل إلى المدينة التي يحلم. كانت علاقتي بالصديق عبدالحميد الذي كان متأثراً بكتابات عبدالواحد نور، التي كانت قوية جداً، بحيث كنا معاً أغلب الأوقات، سواء في الطريق إلى المدرسة أو عند دكان السيد، أو في مشاورينا اليومية للسوق، نزور فيها مكتبة العليوات أو المكتبة الوطنية ومكتبة البحرين أو مكتبة الماحوزي. ربما نلتقي بالخطأ بإحدى الكتب التي تثري تجربتنا الطفولية في الكتابة. وأتذكر أنني كتبت في تلك الفترة قصيدة شعرت أنها جديدة، فأعطيتها للقائد لقراءتها. وبعد يومين سألته عنها فقال: إنها ضاعت.. كيف ضاعت؟. تضايقت بعض الشيء ، فضياع القصيدة لا يعني شيئاً أمام من يكتب في اليوم أكثر من قصيدة. وضياع القصيدة لا يعني ضياع كاتبها وتوقفه عن الكتابة؛ فمن كتب تجربة ما من الممكن أن يكتب أفضل منها. وهكذا كان، في الليل كتبت واحدة أفضل من السابقة .