^   أكثر الظواهر حضوراً في مشهد ما أصبح يعرف باسم “الربيع العربي” هي النزوع الذاتي نحو التمزق، في أشكاله البغيضة المتعددة. فقد لمسناه مناطقياً، ممزوجاً بنكهة قبلية في ليبيا، عندما بدأت دعوات التفريق بين من هم من بني غازي ومن هم في طرابلس، أو بين من ينتمون لقبيلة دون أخرى، وتكرر المشهد في اليمن، حيث برزت نعرات الجنوب في وجه الشمال دون أن تبتعد كثيراً عن الأصول القبلية. ثم تعملقت الظاهرة في سوريا عندما اكتست برداء الطائفية أيضاً، فبدا الصراع في شكله الخارجي وكأنه خلاف بين من هم علويون والآخرون من الطوائف والمذاهب الأخرى. ولم تستثني مصر نفسها فتعنونت النزاعات تحت مسميات أقامت جدران الخلافات بين من هو مسلم وآخر قبطي، أو بين من هو “سلفي” دون أن يكون من جماعة “الإخوان”. في جوهرها تعبر هذه الظاهرة، بغض النظر عن صبغتها، عن سيادة النزعات التمزيقية على حساب تلك التي تقوم على أسس المواطنة الراسخة في بعدها السياسي أو القومية النابعة من المكونات الحضارية للمنطقة العربية. من السهولة بمكان إلقاء تبعات مثل هذه الظواهر على جهات خارجية وتبرئة الذات العربية منها، فنبدأ بكيل التهم لـ “الدول العظمى” وحدها، أو نلقي باللوم على “القوى الصهيونية”.. إلخ، دون أن نكلف أنفسنا بالبحث عن العامل العربي الذاتي الكامن وراء مثل هذا السلوك غير المتحضر، بالمقياس العالمي المعاصر لتعبير “حضاري”. عندما تمارس مثل هذا التمرين سنكتشف حينها أنه بخلاف ما هو سائد اليوم في الكثير من الأدبيات العربية التي حاولت معالجة أو حتى تناول مخرجات “الربيع العربي” السلبية أو تداعياته المحبطة، أن العلة تكمن فينا وتنبع من داخلنا دون أن نقلل من أهمية التدخل الخارجي أو نقلص من عمق تأثيراته. يستعين كل هؤلاء المتنصلون من المسؤولية الذاتية، والمروجون لدور العنصر الخارجي بشكل واع مباشر أو غير واع وغير مباشر، بالمصطلح السياسي العسكري الاقتصادي اللاتيني الأصل “divide et impera” القائم على “سياسة فرق تسد”. والذي طبقته بحذافيره في مراحل تاريخية الدول الاستعمارية في غزواتها للبلدان العربية التي سيطرت عليها ونهبت خيراتها، أو لاحقاً في حروبها التي خاضتها ضد حركات التحرير التي انطلقت في مواجهتها من أجل إنهاء سيطرتها. وكانت بريطانيا أفضل الدول استخداماً لهذه المقولة، وخاصة في المنطقة العربية التي أنصع دليل عليها تلك الاتفاقية التي وقعتها مع فرنسا، وعرفت باسم “سايكس بيكو”، ونتج عنها تمزيق المنطقة العربية إلى دويلات قبل اقتسامها مع دولة استعمارية أخرى هي فرنسا، ونجحتا من خلال ذلك إلى تقسيم المنطقة العربية الكبيرة إلى أقسام متفرقة فقدت الكثير من مقومات قوتها الأمر الذي سهل السيطرة عليها، وحال دون قيام أوهى أشكال التوحد المنتج فيما بينها، وأباح في مراحل لاحقة نهب خيراتها وفي المقدمة منها النفط العربي. لكننا لو أمعنا النظر، وحاولنا قراءة المشهد القائم، بشيء من الموضوعية المتجردة من العواطف الخاطئة، ربما نكتشف أن هناك سلوكاً تمزيقياً ذاتياً تمارسه القوى السياسية العربية، بمن فيها قوى “الربيع العربي” الداعية للتغيير، والرافضة لسياسات الأنظمة القائمة التي تسعى هي، لإصلاحها، كما يقول شعار “الشعب يريد تغير النظام”، أو للإطاحة بها كما يرد في شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. يستمد هذا السلوك العربي غير الحضاري، مقومات أدائه، وعناصر قوته من مجموعة من العوامل، يمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية: 1. فشل الأنظمة العربية التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من سنوات، في بلورة سلوك متقدم لمفهوم المواطنة، التي تغرس عميقاً في نفوس المواطنين بذور الولاء الذاتي غير المشوه، لنظام الدولة التي ينتمي لها ذلك المواطن. عزز عدم الانتماء هذا، تفشي أوبئة الفساد في مؤسسات الدولة وإدارتها، وغياب مقاييس الشفافية التي تسيرها، من جانب، وسيادة سياسات المحسوبية، والولاءات القبلية والمناطقية من جانب آخر، مما أدى إلى تقدم هذه الأخرى على تلك الأولى. ولد هذا الفشل، نزوعاً غير واع نحو المؤسسات التي توفر الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمواطن، ولم يكن هناك أفضل وعاء من القبيلة أو المنطقة، فكسبت ولاء ذلك المواطن، على حساب انتمائه للدولة ذاتها. هذا الأمر كرسته أيضاً، البرامج التعليمية التي لم توفق في وضع البرامج التي تتناول مفاهيم “المواطنة” من منطلقات صحيحة، وتغرسها في عقول التلامذة على نحو سليم وبناء. 2. إصرار الأنظمة ذاتها، على استمرار علاقاتها، من أجل فرض سيطرتها على شعوبها، مع القوى الخارجية، بما فيها تلك التي كانت قد استعمرتها، كل ذلك من أجل إبقائها في سدة الحكم. هذه العلاقة المريضة، وغير المنطقية، مارست دوراً سلبياً، في التأسيس للعلاقة بين الدولة ورعاياها. عزز من تلك السلبية، انتقال سياسات “فرق تسد” من يد القوى الاستعمارية، إلى تلك المحلية، التي نفذتها بشكل مشوه. قاد كل ذلك إلى زرع، ومن ثم تشجيع الظواهر التمزيقية التي أشرنا لها. ولم تنجُ القوى المعارضة، من هذا المرض الخبيث، فوجدناها تنسج علاقاتها مع أعضائها عبر تلك القنوات، لأنها كانت الأكثر سهولة، والأعلى مردوداً على المستويين السياسي العام، التنظيمي الخاص. 3. التسييس المفتعل لمنظمات المجتمع المدني، والقائم أساساً على عناصر تمزيقية، تستمد قوتها من الجذور القبلية التي ينتمي لها أعضاء تلك المنظمات، والذي لم يكتف بتغييب تلك المنظمات عن دورها المجتمعي، وإغراقها في أوحال العمل السياسي المفتعل فحسب، بل عاد مرة أخرى كي يمزقها أيضاً على أسس مناطقية أو قبلية. لذا لم يكن مستغرباً أن تنحرف هذه المنظمات عن طريقها السوي، وتسير في طرق ملتوية تحكمها، بدلاً من القوانين المدنية، الأعراف القبلية، أو، وهو الأكثر سوءا، التحالفات السياسية. هذا التمزيق الذاتي الذي نمارسه نحن العرب على أنفسنا، لا ينفي الدور الذي تمارسه الدول الأجنبية، بما فيها الحليفة، لكن قدرات هذه الأخيرة، تبقى ثانوية، ومحدودة، وغير قادرة على الفعل، ما لم تجد التربة المحلية الخصبة، التي تثمر فيها مشروعات، والطريق المرصوفة التي تسهل حركتها فوقها، والقوى المحلية الموالية التي لا تتردد عن إزالة العقبات من أمامها. وعليه، فإن الخطوة الأولى، وفي الاتجاه الصحيح، تكون بمعالجة المرض الذاتي الذي ينخر الجسم العربي، ويولد مثل هذه الظواهر التي تفتك به، وتفتت أعضاءه، حينها تتراجع سلبيات “الربيع العربي” التي أشرنا إليها، وينعم المواطن العربي بنسائمه، ويتوقف معها التمزيق الذاتي للجسد العربي، قبل أن يتحول إلى جثة هامدة