^  من يراقب الأوضاع العربية التي ولدتها تداعيات الأحداث الأخيرة التي عرفتها بلدان المنطقة، وعلى وجه التحديد في مصر وسوريا، ويحاول توصيفها، سيجد نفسه أمام نعوت محبطة يصعب عليه الاختيار بينها. فقد تحول الصراع العربي الداخلي اليوم في نظر كثيرين ممن يتابعون تفصيلاته الدقيقة قريب إلى حالة من العبثية، التي تبدو دون إبخاس من يقف وراءها حقه وكأنها تقود المنطقة نحو تكون سديمي، تتكرر فيه المشاهد على نحو سريع متلاطم يحول دون تشكلها، ومن ثم تبلورها في هيئة نهائية محددة المعالم واضحة التضاريس. تولد الصورة العبثية هذه وترافقها حالة إحباط خطيرة من شأنها متى ما سرت في جسد هذه الأمة أن تقودها نحو تراجعات تاريخية، تهدد كيانها الحضاري أولاً وتنذر بتفسخها السياسي ثانياً، وتحث على تشظيها الاجتماعي ثالثاً وليس أخيراً. لم تكن تلك مقدمة فلسفية تحاول الخروج باستنتاجات منطقية (بالمعنى الفلسفي لكلمة منطق)، بقدر ما هي محاولة جادة لتشخيص الحالة التي وصل إليها العديد ممن يراقبون المشهد العربي السياسي القائم. ويحاولون استقراء مساراته في لحظات صعودها غير المستقر، أو مراحل تراجعها الملتوي. فما بتنا نشهده اليوم في المدن السورية والضواحي المصرية، قريب إلى حد بعيد من حالات الثأر العربية الجاهلية مثل حرب داحس والغبراء التي اندلعت لأسباب تبدو واهية، لكنها عبرت حينها عن المقاييس التي كانت تضبط إيقاع حركة المجتمع، وعكست درجة تطور قواه الاجتماعية، وقياداتها (تلك القوى) السياسي. لعل السر في استمرار الصراعات وتفاقمها على النحو الذي نشهده وطول أمدها غير المبرر في حالات مثل الحالة العربية، هو فشل وربما عدم قدرة القوى الباحثة عن التغيير والمنادية بضرورة حصوله على تحديد ومن ثم التقاط “اللحظة التاريخية” المناسبة التي تتحول فيها موازين القوى وبشكل واضح لصالحها، فتتحول في تلك اللحظة من حالة الدفاع إلى الهجوم، ومن مواقع الانتظار إلى الانقضاض، ومن خنادق التهيؤ، إلى مربعات الفعل. وحدها القيادات الناضجة التي تمتلك المهارات السياسية المتطورة والخبرة الفكرية الغنية، هي القادرة على تحديد تلك اللحظة واقتناصها، لتحويل موازين القوى بشكل مطلق لصالحها، ومن ثم حسم المعركة، وعلى هذا الأساس من الحكم الصائب بما يخدم مشروعها السياسي ويمهد الطريق أمام نقله من مرحلة الدعوة النظرية إلى التنفيذ العملي. من يراقب الأحداث الجارية اليوم في دول عربية مثل مصر وسوريا، يجد نفسه أمام تصاعد شبه مبهم في العنف والعنف المضاد بين قوى لا يبدو أن لديها مشروعاً وطنياً متكاملاً يمتلك المقومات الضرورية القادرة على تجييش الشعب وراءها، وتجريد الطرف الآخر من المقومات التي تمده بالقدرة على الصمود ومن ثم إرغامه على الاستسلام. تظهر مثل هذه الصورة التي تعكس العجز الذي نتحدث عنه وتعبر عن “العبثية” التي باتت ملاصقة لتطور مشاهده بوضوح لا تشوبه تشويهات في الصدامات الأخيرة التي عرفتها “العباسية” في مصر، وجامعة حلب في سوريا. وتحديد اللحظة التاريخية ليست خياراً ذاتياً ولا قراراً اعتباطياً، بل هي محصلة عوامل الصراع وقوانينه وعناصر القوة التي بين يدي أطرافه. ومن هنا يصبح نضج الآليات التي تتحكم في بروزها كلحظة تحدد اتجاه حركة المجتمع ومساراتها رهناً بموازين القوى بين الأطراف الضالعة في الصراع، بما تملكه من إمكانات ذاتية يضاف لها ما توفره لها تحالفاتها الموضوعية المحلية أو الأجنبية. تحديد اللحظة التاريخية هذه قريب، بتلك الوسطية التي نادى بها أرسطو في الفلسفة الإغريقية، والتي عرفت بأنها “الفضيلة بين رذيلتين”، وطورها في مراحل لاحقة الفلاسفة المسلمون من أمثال الفارابي وابن مسكويه، بل وحتى ابن رشد نفسه. تجدر الإشارة هنا إلى أن الأخذ بهذه “الوسطية السياسية” الباحثة عن تحديد موعد اللحظة التاريخية ليست عملية حسابية محضة تقف فيها تلك الوسطية تماماً في منتصف المسافة بين الرذيلتين، بقدر ما هي معادلة ديناميكية يجري حساب العوامل الفاعلة في مجرى تاريخ أحداثها بآليات مبدعة قادرة على تحديد تلك اللحظة بشكل دقيق، والاستفادة منها على النحو الأقصى. من أهم العوامل المغيبة لمحاولات تحديد هذه اللحظة التاريخية هو القبول بالاستمرارية الاستاتيكية التي تفرضها اللحظة الراهنة، وليس “اللحظة التاريخية”، والمنطلقة أساساً وبشكل غير واع من ردود فعلية آنية، تماماً كما نشهد اليوم في سوريا ومصر تجاه ما يقوم به الطرف الآخر، عدواً كان هذا الطرف أم منافساً في حالات أخرى. والدافع وراء ذلك القبول مراهنة القوى الداعية للتغيير الواهمة على مقولة “إن الوقت ليس في صالح العدو”، في حين ربما يكون عامل الزمن يعمل لغير صالح الطرفين، وفي أحيان كثيرة يقف في صف القوى المناهضة للتغيير والمتمسكة بتلابيب السلطة نظراً لما تملكه من مقومات الاستمرار ومكونات البقاء. وأول ما يتطلبه التحديد الصحيح والدقيق لهذه اللحظة التاريخية، إن كانت قوى التغيير صادقة في دعوتها، هو المراجعة الدورية القادرة على قراءة المشهد السياسي بشكل سليم، وتحديد متطلبات المرحلة على نحو دقيق ونسج التحالفات التي تخدم أهدافها بشكل واع، واختيار الشعارات التي تعبر عنها بشكل ناضج على أن يتم ذلك وفق رؤية استراتيجية كاملة، قادرة على تجاوز الصعاب التكتيكية اليومية دون أن تنساق وراءها، وتقع فريسة سهلة للطرف الآخر الذي نصب فخاخ تلك الصعاب ووقف متريثاً ومتربصاً لمن يقع ساذجاً فيها أو يصبح أسيراً غير قادر على الإفلات من قيودها. اللحظة التاريخية التي نتحدث عنها، ليست مناسبة فكرية يبشر بها فلاسفة، بل هي حدث تاريخي تصنعه القوى الساعية للتغير، متى ما أحسنت استخدام أدوات التحليل، وقامت بناء على مخرجاتها بتحديد متطلبات المرحلة دون انصياع أعمى لحركة الشارع العفوية التي تقود في حالات كثيرة إلى نهايات مدمرة، تجرد تلك القوى من أوهى الأسلحة التي بين يديها وتحولها إلى قوى عاجزة شبه مشلولة، اللهم إلا من القدرة على الاستمرار في حركة لولبية أفقية متداعية لا تملك مقومات مواصلة الحركة، دع عنك الاتجاه التصاعدي نحو الأعلى. وعندما يغيب عن ناظري القوى الداعية للتغيير ضرورة تحديد هذه اللحظة التاريخية، ومن ثم أهمية التحضير لها تبدأ عوامل التآكل الميداني تتسرب إلى أجسادها، وتعمل وبشكل بطيء لكنه متواصل في مهاجمة عضلاتها والفتك بأنسجتها، كي تصل في نهاية الأمر إلى عضلة القلب فتسلبه القدرة على النبض، وحينها تتحول القوى الداعية للتغيير من حالة الحركة والنشاط والعطاء إلى حالة الخمول والسكون اللذين يسبقان التهاوي والموت. وعلى القوى الراغبة في التغيير أن تختار بمحض إرادتها بين هاتين الحالتين، شريطة أن تعي أن لكل منهما شروطه ومقوماته الموضوعية البعيدة عن التمنيات الذاتية أو الأحلام الوردية