كتب - حسين التتان: (أراكا عسيا الدمعي شيمتكا السبر...أما للهوا نهيون عليكا ولا أمر بلا أنا مشتاقن عنديا لوعا... ولكنا مثلي لايداع لهو سرا). رائعة الشاعر العظيم أبو فراس الحمداني هدّ جماليتها إملاء طالب يدرس في إحدى المدارس الخاصة في البحرين، فبدلاً من أن يكتبها كما هي متدفقة بالجمال حوّلها إملاؤه إلى طلاسم فلا تفهم: أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ؟ بلــى أنا مشتـــــاقٌ وعنـــــــديَ لوعـــــــة ولكنَّ مثلي لا يـذاعُ لهُ ســـــــــــرُّ! صارت (عصي) بلغة إملائه (عسيا) وتحول الصبر إلى (سبر) والهوى إلى هواء.. الخ، وبعد قراءتنا لما كتبه الطالب، ترحمنا مباشرة على أبي فراس الحمداني وعلى سيبويه!! وأحالنا هذا الإملاء إلى مناقشة واقع لغتنا العربية في البحرين العربية. ولا بد أنكم سمعتم شكاوى أولياء أمور من ضعف اللغة العربية في المدارس الخاصة، وعدم إمكانية أبنائهم الطلبة وقدرتهم على الكتابة بالعربية ومعرفة أبسط مستلزماتها وضروراتها، كالنحو والإملاء وغيرها، بصفة سليمة وعلى وفق القواعد العربية. هناك طلبة لا يجيدون القراءة، وهناك الكثير منهم من لا يجيد الإملاء، ذلك كله يحصل في الكثير من المدارس الخاصة في البحرين، بينما يجب أن تكون العربية حاضرة بقوة في مؤسساتنا التعليمية الخاصة والعامة، لأننا في وطن عربي، لسان أهله العربية ومعظم معاملات الجهات الرسمية بالعربية كذلك. لماذا تقصّر المدارس الخاصة بتعليم أبنائنا لغتهم؟ وما دور وزارة التربية والتعليم بمراقبة هذه المدارس، وسن التشريعات التي تحفظ اللغة العربية في المدارس الخاصة من الاندثار أو الإهمال أو التشويه؟.. وماذا يقول أولياء الأمور؟ اللغة العربية في المدارس الخاصة على المحك، وهناك نداء كبير من قلب الأسر البحرينية العربية أن احفظوا لغة القرآن من الزوال في وطن عربي أصلاً ولساناً وقلباً ويواجه تحديات بسبب عروبته ويقف مدافعاً عنها بشموخ. العربية... «باي باي» أم أحمد (50 عاماً) هي والدة الطالبة (نور) والتي تدرس في إحدى المدارس الخاصة تتحدث عن محنة ابنتها مع اللغة العربية قائلة: نحن نقر أن مناهج اللغة العربية في المدارس الخاصة جيدة للغاية، لكن ليست المشكلة في الكتب ولا في المناهج، وإنما الإشكالية الحقيقية التي تقع فيها المدارس الخاصة، هي عدم تركيزها على الاهتمام باللغة العربية أو تشجيع الطلبة على دراستها وعدم تكثيف الحصص والبرامج المساعدة على تقريب لغة القرآن من أبنائنا الطلبة في تلك المدارس. وتفسر أم أحمد عدم جدية المدارس الخاصة في الاهتمام باللغة العربية يعود إلى أنها تريد أن تثبت لأولياء الأمور أن اهتمامها باللغات الأجنبية هو المهم، لإحداث نوع من الإغراء لهم بكسب المزيد من تسجيل أبنائهم الطلبة في تلك المدارس التجارية، وكأنها تريد أن تقول لهم: إن المستقبل العملي ليس في العربية وإنما في الأجنبية. وتؤكد أم أحمد أنها ستنقل ابنتها نور في السنة الدراسية المقبلة إلى إحدى المدارس الحكومية لأسباب عدة، لعل من أهمها عدم اهتمام المدارس الخاصة باللغة العربية. بعد حديثي مع أم نور التقيت ابنتها الطالبة نور، فوجدتها بالفعل، طالبة مميزة وذكية للغاية، وما ينقصها اليوم هو الاهتمام بلغتها الأم، تلك اللغة التي انسحقت في مدرستها الخاصة تحت وطأة اللغات التجارية الأخرى، وما لفت نظري أني حين ودعت نور بـ(مع السلامة) ودعتني هي وداعاً إفرنجياً خالصاً قائلة: (باي باي)، فقلت في نفسي: إذا كان الأمر كذلك فلنقرأ على لغتنا السلام ولنقل لها: ( باي باي)!! لمن نوجه لومنا؟ الطالب (طه.م)، أحد طلبة المدارس الحكومية، أجرينا له مجموعة اختبارات بسيطة في اللغة العربية لمعرفة قدراته ومستواه اللغوي، فكان جيد المستوى، في الوقت نفسه أجرينا اختباراً للطالب خليل إبراهيم خليل، وهو أحد طلاب المدارس الخاصة، فعرفنا أنه لا يجيد الإملاء فضلاً عن أهم القواعد الأساس في اللغة العربية. يقول طه: نحن ومن الصف الأول الابتدائي في المدارس الحكومية، وجدنا أن اللغة العربية محط اهتمام واسع، سواء من المعلم أم من إدارة المدرسة، بل ليس في مقدور أي طالب أن ينجح أو يتفوق في المواد الأخرى من دون أن يكون بارعا في اللغة العربية، ولهذا نجد أن غالبية طلبة مدارس الحكومة يجيدون العربية بصفة مقبولة للغاية. يعتقد طه أن غالبية طلبة المدارس الخاصة لا يعرفون أبجديات العربية حتى بعد تخرجهم على الرغم من أن الكثير منهم من الطلبة الأذكياء، وهذا مؤشر على أن الخلل في المدارس الخاصة وليس في الطلبة أنفسهم. والد الطالب (خ.إ) يؤكد أن المشكلة ليس في ابنه وإنما في مدى اهتمام الجهات المشرفة على التعليم في هيئات وإدارات التعليم الخاصة بالمدارس الخاصة باللغة العربية، فلو كان هناك اهتمام يرقى إلى مستوى الطموح لما رأينا طلبة الخاصة لا يجيدون من العربية سوى كتابة أسمائهم وبعض الأمور الضرورية. الشاب عبدالعزيز أبو كميل يتحدث عن هذه المشكلة، ويقول: إني لا ألوم المدارس الخاصة لعدم اهتمامها باللغة العربية، وإنما ألوم وزارة التربية والتعليم لأنها لا تراقب وضعية الطالب في تلكم المدارس، بالإضافة إلى أن المدارس الخاصة هي مدارس تجارية بحتة، وهذا الأمر يعرفه جميع أولياء الأمور، فلماذا يستنكرون عليها عدم اهتمامها باللغة العربية؟ إذا أردوا لأبنائهم الطلبة أن يتفوقوا في لغتهم الأم، فعليهم أن ينقلوهم إلى مدارس الحكومة لأنها أكثر اهتماماً من غيرها بلغة الضاد. يُعاود والد الطالب (خ.إ) ليؤكد من جديد، أن المدارس الخاصة، لا تستطيع بطبيعة نظامها التعليمي أن تصنع من برامجها التعليمية طلبة يرقون إلى المستوى المطلوب في اللغة العربية، فلدي ولد آخر اسمه قاسم، يدرس في إحدى المدارس الخاصة ولديه المشكلة نفسها، بل هو يعاني أكثر من أخيه خليل، في إتقان قواعد اللغة العربية. الطالب (قاسم.إ)، أحد طلبة الخاصة يشير إلى مسألة مهمة، وهي أن واقع اللغة العربية في المدارس الخاصة يبعث على الأسى والحزن، وأن ما وصل إليه شخصياً من تدني في مستوى لغته العربية يعود إلى طبيعة نظام عمل تلك المدارس التي لا تهتم بالعربية. تأكيداً لذلك، وقبل أن يغادرنا قاسم، أجرينا اختباراً بسيطاً له لمعرفة قدراته العربية، فاكتشفنا تدني مستوى لغته إلى درجة مخجلة للغاية!! من جهة أخرى تؤكد إحدى الكاتبات العاملات بإحدى المدارس الخاصة فضلت عدم ذكر اسمها، أن مستوى تعليم اللغة العربية في المدارس الخاصة مأساوي جداً، فالاهتمام هو اهتمام يطال اللغة الإنجليزية فقط. أما العربية فهي آخر اهتمام المدارس الخاصة. وتضيف: إنني أعتقد أن أولياء الأمور لهم دور في هذه المشكلة، فهم لا يهمهم إذا لم يجيد ابنهم العربية، بل جلّ اهتمامهم أن يضبط اللغة الأجنبية، لأنها لغة السوق كما يقولون، وهم حين أدخلوا أبناءهم مدارس خاصة، فهم على يقين أن لغتهم العربية ستفارقهم من المهد إلى اللحد، وهذا أيضاً ليس موضع هم لهم ولا اهتمام. سيحييها القرار السياسي يرى الأخصائي التربوي وأخصائي اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم سابقاً الدكتور علي هلال أن إعادة اللغة العربية إلى موقعها الصحيح لا تتعلق بالمدارس الخاصة فقط، بل هي أزمة دولة، وأزمة هوية في البحرين. يقول هلال: في الواقع لو تحدثنا عن ضياع اللغة العربية في البحرين فإننا نتحدث عن عدم اهتمام المؤسسة الرسمية بلغتنا الأم، بل هناك من يتعمد إبعاد اللغة العربية عن جميع واجهات التعامل الرسمي في البحرين، ولا دليل أوضح من ذلك حين عارض مجلس الشورى، وهو أعلى مجلس وطني يمثل الشعب والحكومة معاً، أن يكون التعامل الرسمي، حتى على مستوى المكاتبات والمراسلات باللغة العربية، وهنا يكمن الخطر، ومن هنا تبدأ الحرب العلنية على الهوية. يرى هلال، أن هناك الكثير من اللغات الأجنبية تزاحم لغتنا العربية في جميع مؤسسات البحرين الوطنية والتعليمية من دون أن يتحرك أي مسؤول ضد قرار إهانة اللغة العربية، كما إن جميع الشواهد والدلالات التي نشاهدها في أسماء المحال التجارية والإعلانات وغيرها، أصبحت كلها بلغات مختلفة عدا العربية، بينما اليوم بدأت دول عربية وخليجية كدولة الإمارات العربية المتحدة في الاهتمام بلغة القرآن، بل وشددت في المحافظة عليها. ويقول هلال: إن اللغة العربية هي هوية الأمة وهوية الدولة وهوية المجتمع وهوية الأرض، لكننا أقصيناها لمصالح تجارية من دون مراعاة الخصوصية لهويتنا العربية. في البحرين، لا رعاية للغتنا، بل هناك من أفسح المجال للغات أجنبية أخرى وقدموها على اللغة العربية عن قصد، وهذا الأمر يجري على مرأى ومسمع من الحكومة. أما بخصوص المدارس الخاصة، فيقول هلال: إذا كانت اللغة العربية مغيَّبة في مؤسساتنا الوطنية الرسمية، وغير متداولة على صعيد التعاملات اليومية في المؤسسات كافة وفي مؤسساتنا التعليمية الحكومية، فكيف نستغرب أن تشطب العربية من معاهد ومدارس خاصة، هدفها الربحية لا غير؟ إذاً ما هو المخرج الحقيقي من هذه الأزمة؟ يجيب هلال: لأجل إعادة هوية الأمة والدولة في البحرين لابد أن يصدر قرار سياسي، يطالبنا بإحياء اللغة العربية من الضياع، وفرضها كأسلوب حياة ومعاملة في جميع شؤوننا، حتى يمكننا بعد ذلك معاتبة المدارس الخاصة التجارية لو همشت اللغة العربية من برامجها التعليمية، لكن والحال هذه فإن أولى خطوات الإحياء، هو إحياؤها في الدولة الرسمية.
970x90
{{ article.article_title }}
970x90