ساذج سياسياً ومخطئ تحليلياً؛ من يعتقد أن سبب انفجار العلاقات السعودية هو اعتقال المحامي المصري الجيزاوي بتهمة محاولة إدخال شحنة صغيرة من مواد مخدرة، اعترف كما تناقلت وكالات الأنباء بحيازتها لكنه أنكر أنها تخصه. على نحو مواز واهم من يعتقد أن الأمور عادت إلى مجاريها، بمجرد رجوع السفير السعودي في مصر أحمد القطان إلى القاهرة، استجابة لمطالب المتحدثين المصريين في الكلمات المتبادلة التي ألقيت أثناء التقاء خادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز بالوفد المصري العالي المستوى، الذي غادر القاهرة متوجهاً إلى الرياض من أجل احتواء أزمة مهاجمة السفارة السعودية في مصر قبل أن تتفاعل عناصرها، وتبلغ مستوى يصعب التحكم في تداعياته. إن طبيعة وتداخل العلاقات السعودية - المصرية أكثر تعقيداً وتشابكاً من أن تهزها حوادث عرضية، آنية من مستوى اعتقال المحامي المصري أو الاعتداء على السفارة السعودية، وهي موغلة في التاريخ، وتعود إلى أيام كانت مصر تتكفل بنسج كسوة الكعبة سنوياً، وإرسالها على محمل خاص يرافقها فيه حجاج ذلك العام. لكن ومن أجل الحصر التاريخي يمكن العودة بها إلى أول تغيير سياسي عرفته مصر، بعد الإطاحة بالملك فاروق في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وتولي حركة الضباط بقيادة اللواء محمد نجيب، ولاحقاً البكباشي جمال عبدالناصر إلى السلطة، والتي لم تكن، كما يؤكد محمد حسنين هيكل، في أي يوم من الأيام ثنائية صرفة، بفضل المكانة التي تحتلها الدولتان على الصعيد السياسي، وفي مرحلة لاحقة، بعد اكتشاف النفط بكميات ضخمة في السعودية، على المستوى الاقتصادي. من يرغب في وضع تصور لمستقبل العلاقات السعودية – المصرية، لابد من أن يتجاوز تلك الحوادث العابرة، ويرى الصورة في إطارها الأوسع، الذي يشمل المسارات التالية: 1. اللوجستي - الاستراتيجي، فلكليهما شواطئ وممرات استراتيجية على البحر الأحمر التي تبدأ بقناة السويس، قبل أن تصل إلى نهاياتها عند مضيق باب المندب، الأمر الذي يزج، موضوعياً، بأية علاقة بينهما، وبشكل مباشر، في موازين الصراع العربي الإسرائيلي، إذ لا يستطيع الكيان الصهيوني أن يستغني عن مدخل إيلات، ولا إغفال أهمية باب المندب، على المستويين العسكري والتجاري. يضاعف من هذه الأهمية إطلالة الشواطئ السعودية الشرقية، على الضفة الغربية للخليج العربي، الأمر الذي يضعها في خط الدفاع العربي الأول، في التنافس العربي – الفارسي. هنا يبرز التكامل المفصلي، الذي يفتح أيضاً مجالاً واسعاً لتعميق العلاقات المصرية – السعودية، وحسن تجييرها لصالح الطرف العربي في ذلك الصراع. 2. الاقتصادي - المالي، وليست هناك حاجة للغرق في لجة بحر الأرقام، تكفي الإشارة، وكما تردده مصادر رسمية في البلدين، إلى “أن حجم التبادل التجاري بين السعودية ومصر يعادل 4 مليارات دولار أمريكي، كما يبلغ حجم الاستثمارات السعودية في مصر 5 مليارات دولار”. وقد ذكرت تقارير اقتصادية “أن حجم الاستثمارات السعودية في مصر في الوقت الحالي تصل إلى 23 مليار دولار وتعتبر الأكبر بين دول العالم، وأن الشركات السعودية ضخت في الاقتصاد المصري حوالي 22.8 مليار دولار منذ عام 1970 إلى شهر مارس من العام 2012، حيث يصل عدد الشركات إلى 2769 شركة”. وحتى بعد الأحداث الأخيرة التي عصفت بمصر، قدمت السعودية في 22 مايو 2011، “حزمة مساعدات تبلغ أربعة مليارات دولار تعهدت السعودية بتقديمها إلى مصر تتضمن وديعة في البنك المركزي المصري بمليار دولار وشراء سندات بقيمة 500 مليون دولار”. وفي هذا الإطار، ومن الجانب المصري، يؤكد رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية السعودية أحمد الوكيل “أن حجم الاستثمارات المصرية في المملكة يبلغ نحو 700 مليون ريال، مشيراً إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين تجاوز أربعة مليارات و750 مليون دولار في عام 2011، وحدثت زيادة في الربع الأول من العام الحالي 2012 بنسبة 50% لتتجاوز حاجز خمسة مليارات دولار مع نهاية العام الحالي، لافتاً إلى أن السياحة السعودية تشكل نسبة 20% من السياحة العربية الواردة لمصر”. يضاف إلى ذلك حجم الجالية المصرية في السعودية الذي يؤكد السفير المصري في السعودية محمود عوف، “أنها تضم أكبر جالية للمصريين فى الخارج بما يقرب من مليون و750 ألف مصري”. 3. الديني – العقيدي، القائم على وجود مكة المكرمة والمدينة المنورة،على حد السواء فوق التراب السعودي، وبالمقابل احتضان قاهرة المعز لـلأزهر الشريف، وتكاملهما في أي مشروع يسعى لبناء علاقات حضارية – دينية مع العالم غير الإسلامي. ولعل في التنسيق الذي قام بين الدولتين، في مواجهة أطروحات “صدام الحضارات” الذي روجت له واشنطن أبلغ دليل على الحاجة المتبادلة للتنسيق بين الدولتين لخوض أية معارك مستقبلية محتملة. وقد أطرت هذه العلاقة من خلال اتفاقيات موثقة بين البلدين، لعل أبرزها تلك التي وقعها مفتي الديار المصـرية علي جمعـة مع وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودي صالح آل الشيخ بين دار الإفتاء المصرية ووزارة الشؤون الإسلامية حول نهج الفتوى واعتبار أن الاختلاف في وجهات النظر يعتبر اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد” . أخذاً بعين الاعتبار كل هذه العوامل التي تسيّر العلاقات السعودية المصرية، وربما غيرها لكنها لا ترقى إلى مستوى أهميتها، يمكن استقراء مستقبل تلك العلاقات على النحو التالي: سيسعى الطرفان، كما شاهدنا في لقاء العاهل السعودي بالوفد المصري الكبير على “لملمة الأزمة”، من أجل الحيلولة دون تفاقمها في البداية، واحتواء ذيولها في مراحل لاحقة، نظراً لاحتياج العاصمتين إلى تهدئة جبهات الصراع، الداخلية وحتى الخارجية، نظراً لانشغالهما في قضايا أكثر مصيرية، وأشد إلحاحاً. فبالنسبة لمصر، هي في أمس الحاجة إلى تجميد أي نوع من الخلافات، نظراً لحرصها على تجاوز أزماتها الداخلية، والأهم في قائمتها هي الانتخابات الرئاسية التي تنذر بتفجر الأوضاع في اتجاهات مختلفة يصعب التكهن بها ما لم يجر العمل للتحكم في مساراتها. بدورها الرياض، أمامها الوضع الخليجي المتأزم، داخلياً، يضاف إليه تفاقم الأوضاع في اليمن، التي لا تستطيع السعودية تجاهلها، لما لها من انعكاسات داخلية عليها، تستمد مقوماتها من الجذور التاريخية للعلاقات اليمنية – السعودية، وهناك الدور الذي ينتظرها لتسوية أزمة العلاقات العربية – الفارسية، في ضوء الأوضاع المتفجرة التي خلقتها تصريحات الرئيس الإيراني نجاد إلى الجزر الإماراتية المحتلة. يلي مرحلة الاحتواء هذه، معالجة استراتيجية متكاملة لمستقبل تلك العلاقة في ضوء عنصرين أساسيين مستجدين: الأول هو النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات الرئاسية المصرية، والثاني هو الإصلاحات، التي ألمحت لها الرياض، والمتوقع حدوثها في فترة قريبة قادمة